والجواب، أن الآية الأولى في أمة معينة، قد بين حالها وقبيح مرتكبها، وتحصل العلم بكفرهم وظلمهم أنفسهم، فقيل: (فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (المؤمنون: ٤١)، ووقوع اسم الظلم عليهم على أتم ما يقع عليه، من عدم الإيمان، وارتكاب العظائم من كفر وتكذيب وقبيح الرد، على ما تفصل في الآي قبلها، وأما قوله بعد: ((فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) (المؤمنون: ٤٤) فورد عقب إجمال إخبار بطوائف وأمم اجتمعوا في التكذيب ورد ما جائتهم به رسلهم، فأعقب بوصف إذا وجد كان ما سواه من قول وعمل مناسباً له وبحسبه وهو عدم الإيمان، ولم يكن وصفهم بالظلم ليعطي ذلك لوقوعه على الظلم بالكفر وعلى الظلم بمعصية والمعصية ليست كفراً، ألا ترى أن بعض من يقع عليه اسم الظلم ويوسم به قد يكون مبقى عليه اسم الإيمان، بل لم يقترن به ما يقتضي كفره، أما من اتصف بعدم الإيمان فلا فلاح معه، فلما اجتمع هؤلاء الظائف في عدم الإيمان وسموا به، ولما كان عدم الإيمان حاصلاً لمن تقدم بما ذكر من تكذيبهم وأخذهم بالصيحة وجعلهم غثاء أعقب وصفهم بما ينبئ بالزيادة على كفرهم، إذ الكفر حاصل.
فإن قلت: فقد تقدم في وصف هؤلاء الأمم: (كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ) (المؤمنون: ٤٤)، وحصل من ذلك عدم إيمانهم فلم كرر؟ ولِمَ لَم يوصفوا بالظلم؟ قلت: لم يقع في ذكر هؤلاء تفصيل مرتكباتهم كما ورد فيمن تقدمهم، فناسب إجمال الواقع من التكذيب إجال الوصف بعدم الإيمان، وجاء كل من ذلك على ما يجب، والله أعلم.
الآية الرابعة من سورة المؤمنون - قوله تعالى: (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (المؤمنون: ٨١ - ٨٣)، وفي سورة النمل: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (النمل: ٦٧ - ٦٨)، للسائل أن يسأل عن تقديم المضمر المذكور والمعطوف عليه على المفعول الذي (هو) ((هذا)) في آية المؤمنون وعكس ذلك في آية النمل؟
والجواب عنه، والله أعلم: أنه لما تقدم قبل آية المؤمنون قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) (المؤمنون: ٦٨)، فتقدم التعريف في هذه الآية أن آباءهم قد جاءتهم الرسل، وأنذروا كما أنذر هؤلاء، لهذا قالوا: (لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (المؤمنون: ٨٣)، ولما لم يتقدم في آية النمل