اصْطَفَى) (النمل: ٥٩)، إلى قوله: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (النمل: ٦٤)، للسائل أن يسأل عن وجه الاختلاف فيما أعقبت به كل آية منها وإبداء التناسب في ذلك؟
والجواب، والله أعلم: أن الآية الأولى لما نبهوا فيها ذكروا بما تشهد العقول بديهياً وتعترف بدلالته - إذ لا إشكال فيه - من أن السماوات والأرض تشهد بإحكام منعتها، وإتقان خلقها، وما أودع سبحانه فيها من العجائب والآيات المشاهدة للعيان، مع انسحاب التغير على جميعها وعلى ما فيها، بأن لها موجوداً أوجدها وأحكم صنعتها وإتقانها، وأنه لا يمكن أن أوجدت أنفسها ولا أوجدها غيرها مما يماثلها في شواهد الافتقار وانسحاب التغير، وذلك ما لا تنفك عنه سائر الموجودات فيشهد العقل بأن لها موجداً من غير جنسها متعالياً عن شبهها. إذ لو شبهها لافتقر إلى موجد آخر، فلبيان الأمر ما أعقبت هذه الآية الأولى بقوله: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (النمل: ٦٠)، أي أن الأمر غير خاف ولكنهم يعدلون عنه، وكذا قيل لهم في دعائهم إلى الإيمان في أول سورة البقرة حين ذكروا بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ... ) (البقرة: ٢١) إلى قوله: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: ٢٢)، فهذا كقوله: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) من غي فرق، لما ذكروا في الموضعين بخلق السماوات والأرض، وإنزال الماء من السماء، وإخراج الثمرات، وإنبات الحدائق العجيبة، وكانوا يتعرفون بخلقه سبحانه جميع ذلك (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (العنكبوت: ٦١)، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (العنكبوت: ٦٣)، فاعترافهم بهذا ثم يجعلون له تعالى الند والشريك عدول واضح بعد قيام الحجو عليهم، فقيل هنا: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ).
ثم لما ذكروا بما هو أخفى في قوله تعالى: (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا) (النمل: ٦١)، فإن تمهيد الأرض للسكني، وتفجير الأنهار خلالها، وحجز ما بين العذب والمالح من مياهها، ليس مما ظهور الاعتبار به وبيانه في الجلاء والوضوح كخلق السماوات والأرض وإنزال الماء إلى ما في الآية، فلما كان التذكير بما في الآية الثانية أخفى أُعقب هذا بقوله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (النمل: ٦١)، ثم تدرج الاعتبار إلى ما هو أخفى فقيل: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ) (النمل: ٦٢)، وخفاء الاعتبار بهذا واضح، ولا يحصل عليه إلا من أمعن النظر فيما تقدم قبله، فأعقب هذا لخفائه بقوله: (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) (النمل: ٦٢)، ثم أعقب بما لا يمكن أن