السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (العنكبوت: ٤)، وهذا من أشد الوعيد إذ حاصله أنه لا يفوته سبحانه أحد ولا مهرب منه تعالى إلا إليه، ناسب هذا قوله تعالى: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)، كما قال: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا) (القرة: ١٤٨) إلى ما ورد من هذا، وذلك تناسب بين، ولما لم يرد في سورة الشورى من أولها إلى الآية مثل هذا الوعيد الشديد، ولا كان فيها ما يستدعي في هذا التعميم والاستيفاء الوعيدي، وردت الآية مناسبة، لذلك، فقال تعالى: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ)، ولم يكن التعميم هنا ليناسب، فورد كل على ما يجب، والله سبحانه أعلم.
الآية الثالثة من سورة العنكبوت - قوله تعالى: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (العنكبوت: ٢٤)، وورد بعد هذا: (خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (العنكبوت: ٤٤)، فأفرد هنا آية وجمع في الأولى فقال: (الآيات)، مع أن هذه الثانية أعظم: قال تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (غافر: ٥٧)، فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك؟
والجواب عنه، والله أعلم: أن الإشارة في الآية الأولى بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ) ليست لقصة إبراهيم، عليه السلام، وإنجائه من النار فقط بل الإشارة لمجموع معتبرات، منها لبث نوح، عليه السلام، في قوله ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله ويريهم الآيات فما آمن معه إلا قليل، ومنها آية أخذهم بالطوفان وتعميم الغرق لجميع أهل الأرض، ومنها إنجاء أهل السفينة وجعلها آية للعالمين، ومنها ما أحيلوا عليه من الاعتبار بمن قبلهم في قوله: (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ.. ) (العنكبوت: ١٨)، ومنها دعاء إبراهيم، عليه السلام وعظيم بيانه وما استجر دعاؤه إياهم من الآيات والبراهين على نبوته، ومنها ما أيلوا عليه آخر الآيات في قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (العنكبوت: ١٩)، فلما تقدم تفصيل الآيات ورد التنبيه بالإشارة إلى جميعها فقيل: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ).
أما قوله في الآية الأخرى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) فالإشارة إلى المصدر وهو الخلق المفهوم من قوله: (خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً)، كما ورد في قوله تعالى: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: ٨)، فالضمير للمصدر وهو العدل المفهوم من وقله: (اعْدِلُوا)، وهذا جار في الضمير واسم الإشارة ومتردد في كلام العرب، فكل من الآيتين على ما يجب.


الصفحة التالية
Icon