منها استدلال بهذا الخلق العظيم، وما هو عليه من جليل التناسب، وإتقان الصنعة وإحكامها من غير تفاوت ولا فطور، على واحدانية تعالى، وانفراده بالخلق والأمر، واتصافه بالعلم والقدرة إلى ما يجب له تعالى من صفات الكمال، والتعالي عن شبه الخليقة، ولوضوح هذا الدليل ما أخبر تعالى عنهم أنهم لو سئلوا لاعترفوا فقال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (لقمان: ٢٥)، وأما قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (العنكبوت: ٦٣)، فمقصودها إقامة البرهان على الإحياء من بعد الموت، وبيان ذلك بمثال (مشاهد) للعالم يحصل عن اعتباره جواز ما قصد تمثيله، وبذلك أفصحت آية الأعراف في تعقيبها بقوله: (كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأعراف: ٥٧)، وذلك أبين شيء، فقد اختلف المقصد كما تقدم.
ووجه تخصيص سورة العنكبوت بهذه الآية مناسبتها لما تردد فيها وتكرر من ذكر العودة الأخراوية أو الإشارة إليها في ما نيف على عشرى مواضع، أولها: قوله: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (العنكبوت: ٥)، وآخرها ما ورد قبل الآية المتكلم فيها من قوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (العنكبوت: ٥٧) وما اتصل بها، وأنصّها في المقصود قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (العنكبوت: ١٩) إلى قوله: (ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) (العنكبوت: ٢٠)، فناسب ما تردد في هذه السورة من هذه الآي إيراد آية المثال المذكورة، ولما لم يرد في السورتين الأخريين مثل الوارد المتكرر في سورة العنكبوت لم يكن ليناسبها ورود آية المثال مناسبتها حيث وردت.
والجواب عن السؤال الثاني، وهو توجيه اختلاف الحال فيما وقع فيه التعقيب في هذه الآي، أن ذلك مبنى على الترتيب الثابت في الكتاب العزيز (لما) ذكر تعالى حالهم لو سئلوا عن خلق السماوات والأرض وتسخير النيرين، ولا إشكال فيه لمن وفق، قال تعالى: (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (العنكبوت: ٦١) أي كيف يصرفون عن الدلالة مع وضوحها، ثم قال عقب آية لقمان: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (لقمان: ٢٥)، وحصل مما أعقبت به الآيتان ما في قوة أن لو قيل: كيف يصرفون مع بيان الأمر ما ذلك إلا لمنعهم عن العلم: (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) (الكهف: ٥٧).
وأما ختام آية الزخرف بقوله: (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (الزخرف: ٩)