علي الترتيب الوارد في السور الثلاث، فقد خالفت مقصود ما في تلك السور، ثم جرت على ما فيها من الترتيب، فما الفرق بينهما وبين هاتين السورتين؟ قلت: الفرق بينهما أن مقصد آية سورة الحج الإخبار بتكذيب أولئك الأمم وأخذهم تسلية لنبينا صلى الله علية وسلم من غير زيادة لما تعرضت لة آية ص وآية ق، وأما هاتان الآيتان فقد انجز فيهما مع ذكر التكذيب والأخذ التعريف بتعزز عتاة قريش ومن وافقهم وذكر شقاقهم. وقبيح ردهم وتعاميهم عن النظر في الآيات والاعتبار بما نصب منها في الأرض والسماوات، فلهذا المنجر هنا انفردت سورة ص وسورة ق بالوارد فيهما من الترتيب عن سورة الحج.
فإن قلت: فإذا اجتمعت السورتان فيما ذكر فما وجه اختصاص كل واحدة منهما بما خصت به عن أختها من الترتيب؟ قلت: أما آية ص فوجه اختصاصها بما ورد ترتيبها عليه أنه سبحانه لما وصف كفار قريش والعرب بالاعتزاز والشقاق في قوله: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) (ص: ٢)، ثم أعقب بذكر القرون المهلكة في قوله: (كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) (ص: ٣)، ثم أعاد ذكرهم مفصلا قرنا قرنا وأمة أمة، كان الأنسب لما قدم من ذكر عتو كفار العرب وشقاقهم ذكر أعتى القرون من الأمم وأجرمهم، فذكر قوم نوح من حيث لم يجد عليهم نكرار الإنذار مع طول الأمد، قال تعالى مخبرا عن طول مدتهم وبعد إجابتهم قال نوح: (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا) (نوح: ٥ - ٦)، إلى قوله: (وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) (نوح: ٧)، إلى دعائه، عليه السلام، عليهم عند قطع رجائه منهم بقولة: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) (نوح: ٢٦ - ٢٧)، إلى ما وصفهم سبحانه به وأنه لم يؤمن منهم مع نوح إلا القليل، فوجود ما تحلت به عتاه قريش ومتمردو كفار العرب من العزة والشقاق في قوم نوح أوضح شيئ، ثم اتبع ذكرهم بدعاء عاد الموصوفين بالقوةوالطغيان القائلين: من أشد منا قوة، والقائلين لنبيهم عليه السلام: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ) (الشعراء: ١٣٦)، إلى قوله: (وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (الشعراء: ١٣٨)، ثم اتبع بذكر فرعون ذي الأوتاد، والمراد هو وآله وقومه. وقد تكرر في القرآن مع ذكر فرعون وعلوه في الأرض وطغيانه مع ما أوضح شنيع مرتكبة وبعد شقاقه، ثم اتبع بمن ذكر بعدهم مراعي في ذلك مناسبة ما قدم، ثم ذكر اجتماعهمفي موجب تمردهموعتوهم وهو تكذيبهم للرسل، فقال تعالى: (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ) (ص: ١٤) ثم أعاد الكلام إلى كفار قريش والعرب المبدو بهم والمنبهين لو تنبهوا بأخذ من عاند وكذب ممن تقدمهم فقال: (وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ) (ص: ١٥)،