كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الزمر"٤٨)، وفي سورة الجاثية: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) (الجاثية: ٣٣)، للسائل أن يسأل عن وجه اختصاص آية الزمر بقوله: (ما كسبوا) وآية الجاثية بقوله (ما عملوا) مع أن المقصد في الموضعين واحد وهو أنه لم يغب من أعمالهم السيئة شيء؟
والجواب عنه، أن العمل أعم من الكسب لأن الكسب واقع على ما للإنسان فيه تعمل وعلاج، وقد يطلق على غير الإنسان إذا كان الواقع منه ذلك حيواناً يصح منه القصد كالجوارح المعلمة وشبهها، ومنها قوله:
وتجر مجرية لها لحمى إلى أجر حواشب
وأجر جمع جرو، وأما العمل فيقع على ذلك وعلى ما جرى من فاعله وإن لم يكن منه قصد ولا تعمل ولا هو فاعل حقيقة، فيطلق على ما لا يطلق فيه الكسب، ومنه بيت الكتاب:
حتى شآها كليل موهناً عمل باتت طراباً وبات الليل لم ينم
فوصف البرق بأنه عمل، ومقصود الآية أنه بدا لهم كل ما كان منهم على الاستيفاء، لأنه إخبار موعظة وتهديد وإشعار بالوعيد، فيناسبه ما يجري في المناقشة. وإذا كان المعنى على ما ذكرنا فالمطابق لهذا ما ورد في الجاثية من التعبير ببدأ والعمل، وعلى هذا ورد قوله في سورة النحل وعيد للمقول فيهم: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ... ) (النحل: ٣٣) ثم قال: (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) (النحل: ٣٤)، ولم يرد هنا: (ما كسبوا) لأنه من قصد التوسعة (والاستيفاء) (مما يبدون من أعمالهم ويظهر الاستيفاء لذلك)، وكذلك الوارد في الجاثية، وإذا وضح هذا بفينبغي السؤال عما ورد في سورة الزمر، ولم عدل به عن هذا فقيل: (ما كسبوا)؟
والجواب عنه، والله أعلم: أنه إنما ورد تتمة لما تقدمه من قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (الزمر: ٤٧)، فقوله: (مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) يتناول ما قدموه من سيئ أعمالهم غافلين عنه وناسين إياه، كان مما قصدوه فيه أنفسهم أو دون ذلك فقد حمل من هذا مع بعده ما تحصل من قوله: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا)، وكان قوله مع ذلك: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا) كالتتمة المؤكدة ومتناولاً ما قصدوه وأعملوا أنفسهم