سورة الزخرف
الآية الأولى منها - قوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الزخرف: ٢٠)، وقال في الجاثية: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (الجاثية: ٢٤)، فأعقب في الأولى قوله: (مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ) بقوله: (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)، وأعقب في الثانية قوله: (مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ) بقوله: (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)، فللسائل أن يسأل عن وجه اختصاص كل من الموضعين بما به أعقب؟
والجواب عن ذلك، والله أعلم: أنهم لما قالوا: (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ) فتعلقوا في احتجاجهم بقول الحق، وهو أنه سبحانه لا يجري في ملكه إلا ما يريده ويشاؤه، ثم في اختصصهم من أسمائه الرحمن عضد لتعلقهم وتقوية لما رأوا الاحتجاج به، وكأنهم قالوا: إذا كان متصفاً بالرحمة ولا استبداد لأحد من الخلق بشيء من أفعالهم وإنما يجري ما يصدر عنهم بحسب مشيئته وإرادته، وقد جرى منا ما نحن عليه من عبادة أصنامنا وما اتخذناه من معبوداتنا، وليس لنا استبداد بما يصدر عنا فهو مراد له وبمشيئته وهو رحمة لأنه الرحمن، فلو كانت الرحمة في تركنا معبوداتنا لشاء ذلك (لنا) لأن الرحمن لا يكون منه إلا ما هو رحمة، وإنما الفعل له لا لنا، فلو شاء أن لا نعبدها ما عبدناها، فلما تعلقوا بما يبدو منه أن لديهم علماً، أخبر تعالى نبيه ﷺ أنه لا علم عندهم، ولا قالوا ذلك عن معتقد تركن إليه قلوبهم، إنما هو تخرص قولي لا علم وراءه، ومن وحي الشياطين لأنهم أولياؤهم كما قال تعالى: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ) (الأنعام: ١٢١)، فكرمهم تخرص بالقول لا علم وراءه، إذ اللام في القدر وأحكامه، وإن الإدارة تخالف الرضا، وإن الآمر قد يأمر بما لا يريده، وإنه سبحانه قد يريد إيقاع ما لا يرضاه، وبيان ما تبني عليه التكاليف وتتعلق به الأوامر والنواهي من القدرة الكسبية التي بمعرفتها وثبوتها حصول السلامة من مذهب الجبر، وبإنكارها التورط في مذهب الاعتزال أو قول أهل القدر، وكلا المذهبين ضلال ونزوح عن الحق، وكل من المذهبين له تهجم سبقية إلى الأذهان، يدفعها التوفيق؟ إلى النظر الصحيح، وإلا كان التخرص المورط في الضلالات، وهنا بحار طامية من دقائق العلم والنظر لا شيء عند هؤلاء الكفار منها (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) (يونس: ٢٩، (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (يونس: ٦٦)، فقد وضح التناسب في هذا.