يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (الإنسان: ٣١)، فتحصل مجرد وعد ووعيد، ولم تخرج السورة عن ذكر الفريقين ممن وعد وتوعد، فناسب ذلك قوله تعالى جواباً للقسم: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ) فجاء كل من المواضع الثلاثة على ما يناسب، ولا يلائم النظم في ثلاثتها غير ما ورد عليه، والله أعلم.
الآية الثانية - قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) (الذاريات: ١٥ - ١٧) إلى قوله (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (الذاريات: ٢٣)، وفي سورة الطور: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) (الطور: ١٧) إلى قوله: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الطور: ١٩). للسائل أن يسأل عن وجه اختلاف الإخبار عن أهل الجنة في هاتين السورتين؟
والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن هاتين السورتين اتحدتا في القصد من وعيد كفار قريش والعرب ذوي العناد والتكذيب والإخبار بجزائهم الأخراوي، فعلى هذا مبنى السورتين، ولهذا افتتحتا بالقسم على ذلك كما تقدم، والموعود به فيهما جزاء فريقي السعادة والشقاء، وإليه الإشارة بقوله: (وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ)، وهو حساب الكل وجزاؤهم بما سلف من جميعهم من خير أو شر. فلم يكن بد من ذكر أهل النعيم ذوي الاستجابة والتصديق للرسل، والإخبار بحال الفريقين على ما هو الجاري المطرد في الكتاب العزيز، أعني أنه إذا ذكر حال المكذبين أتبع بحال المصدقين، أو ذكر حال ذوي الاستجابة والتصديق) بحال من كان على الضد منهم، وهذا قانون مطرد، فلمجموع هذين: من أن الكل هم المرادون بمقتضى قوله تعالى: ((إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ) (الذاريات: ٥ - ٦)، وأنه إذا ذكر أحد الفريقين أتبع بذكر الفريق الآخر، فلهذا ما ذكر فريق المتقين وجزاؤهم مع أن مبتى السورتين على ما ذكر، فبدئ فيهما بذكر حال المعاندين، وبذلك ختمت كل سورة منهما، ثم ذكر بعد المبدو به في السورتين حال المتقين، ونص في السورة الأولى على أسنى أعمالهم وأجل ملتزماتهم المستتبعة لما (سواها) من سائر أعمالهم المترتب عليها جزاؤهم فقال تعالى: (آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذاريات: ١٦ - ١٩)، فذكرهم الله تعالى بالإحسان، وقيام الليل، والاستغفار بالأسحار، والمساهمة في أموالهم للسائل والمحروم، وكأن هذه أمهات اقتصر منا عليها، وأمعن في الثانية بذكر الجزاء وضروب النعم. في مجموع السورتين الوفاء بذكر أعمالهم وجزائهم فقيل في الأولى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ) (الذاريات: ١٥ - ١٦) فهذا