سورة الحديد وسورة التغابن، ألا ترى اجتماع السورتين في ذكر خلق السماوات والأرض، والإعلام بإحاطة علمه سبحانه، وما يترتب على ذلك من الجزاء الأخراوي وذكر الأموال والأولاد والفتنة بهما، وتحقير أمر الدنيا وما انطوت عليه الإشارة إلى تفصيل أحوال الخلق وجزائهم الأخراوي، وإن كل واقع في الوجود واقع بإذنه سبحانه وتقديره وانطواء كل واحدة من هاتين السورتين على جملة من أسمائه سبحانه، ولم يرد في غيرهما من السور الخمس المذكورة من ذلك ما يجاربهما فيما اشتركتا فيه من الأسماء العلية، وإن كانت سورة الحشر قد انطوت من ذلك على نحو ما انطوت عليه سورة الحديد إلا أنها لم تلتق معهما في موافقة ما اجتمعتا عليه من تعيين عدة منهما (فلما) اتفقت السورتان فيما ذكر، ولم يجتمع معهما غيرهما من المسبحات في ذلك ولا قارب، مع طول سورة الحشر ومجاراتها في الطول سورة الحديد، وكون سورة التغابن لا تقارب واحدة منهما في الطول)، ومع ذلك فقد شاركت سور ة الحديد في تلك الأغراض الجليلة والمقاصد العظيمة وجارتها في ذلك عدداً واستيفاء، وعريت سائر المسبحات عن التعرض لذلك أو الوفاء منه بما وفتا به وعرفتا من حاله. فلما اتفقتا في هذا كله، وكانت سورة الحديد أمعن في كل ضرب مما ذكر وأوفي تعريفاً وأمد تفصيلاً، وكانت هذه الآية المتكلم فيها من جملة ما اتفقت السورتان فيه وروداً واتحاد معنى، أجريت في كل واحدة من السورتين من التفصيل في الأولى والاستيفاء والإجمال في الثانية والاكتفاء على ما جرت (به) سائر الآي فيما اشتركت فيه السورتان مما ذكر قبل، فناسب ذلك ما زيد فيها في الآية المذكورة فقيل: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) (الحديد: ٢٢) مناسبة لما بنيت عليه السورة من الوفاء بالأغراض المذكورة. وقيل في آية التغابن: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) (التغابن: ١١) مناسبة للإجمال الوارد فيها من ذلك المشترك. وتحصل نظم السورتين على أتم مناسبة وأجل تلاؤم، وجرى ذلك على مسلك العرب وتفننها في كلامها وتصرفها إذا أطالت لداع موجب وفصلت أو أوجزت لمقتضى من المعنى وأجملت:
يرمون بالخطب الطوال وتارة وحي الملاحظ خيفة الرقباء
ولا يمكن على ما تبين عكس الوارد في السورتين بوجه، والله أعلم بما أراد.
****


الصفحة التالية
Icon