نغص الموت ذا الغني والفقيرا
فتكرير الموت هنا أوسع في التهويل من تكراره في قوله صدر البيت: " يسبق الموت شئ "، لأنا إذا عللنا هذا إنما نقول أعاد الظاهر موضع المضمر لما أراد من تعظيم الموت وتهويل أمره، فإذا عللنا تكريره في قوله: " نغص الموت ذا الغنى والفقيرا " عللناه بهذا وبأن الكلام جملتان فحسن فيهما ما لا يحسن في الجملة الواحدة. وإذا تقرر هذا فاعلم أن الواقع في الآية العلية أجل في البلاغة من هذا كله وأعظم موقعاً في الفصاحة لا تساع مجال التوسع، ألا ترى أن البلد معظم فهذا مسوغ كاف، والكلام جملتان وهذا مسوغ أيضا، والجملة الواقع فيها التكرر جملة اعتراض، وجمل الاعتراض كالكلام الأجنبي بوجه عام، إنما يؤتي بالجملة تشديداً وإنباء بما يقصد من اعتناء أو تحرير كلام، فلكون جمل الاعتراض أجنبية في الأصل عن الكلام حسن فيها ما لا يحسن في غيرها، فساغ التكرير وحسن في الآية من هذه الأوجه الثلاثة. إلا أن القسم إنما وقع بقوله: (أقسم بهذا البلد ووالد وما ولد)، وليس قوله: (أنت حل بهذا البلد) مما وقع به القسم بوجه، وإنما هي جملة اعتراض سيقت بياناً لعظم قدره صلي الله عليه وسلم وأن هذا البلد العظيم الحرمة أحل له ولم يحل لأحد غيره. فكأن قد قيل: أقسم بهذا البلد العظيم لدينا وقد حللناه لك على عظم قدره، وذكره ظاهراً لما يحرز هذا المعنى من تعظيمه لما فيه من التنبيه والتحريك، فسيقت هذه الجملة اعتراضاً وكلاماً قائماً بنفسه. ليس من المقسم به في شئ، وإنما جئ به لما ذكر. وإذا تباين الكلام بجهة ما لم يستثقلوا فيه إعادة الظاهر إذ هو بمثابة ما الثاني فيه غير الأول، فوضح أن الآية واردة على أعلى وجوه البلاغة وأفصح الكلام، وأنه لو جئ هنا بالمضمر مكان الظاهر لم يكن بوجه، والله أعلم
الآية الثانية من سورة البلد - قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) (البلد: ٤)، وفي سورة التين والزيتون: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين: ٤)، إن سئل عن قوله في الأولى: "في كبد" وفي الثانية: "في أحسن تقويم"؟
فالجواب عنه: أنهما حالان من حالات الإنسان لا تعارض بينهما لأن مصرف كل من هاتين الحالتين بين، وكلام المفسرين في ذلك شاف، وليس هذا بالجملة من الغرض المبنى عليه هذا الكتاب إذ لا إشكال فيه.
*****


الصفحة التالية
Icon