والقصد من الإعجاز ليس فى مجرد الألفاظ ودقة ترتيبها، وبراعة نظمها، ولكن فيما وراء كل حرف من حروف القرآن من الدلالة على معان خفية لا يحيط بها إلا الخالق فيضع الحرف للدلالة على هذا المعنى الخفى الذى لا يعرفه المخلوق.
يقول الله جل شأنه وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١).
ولا شك أن نزوله منجما مفرقا بضع آيات، أو حتى جزء آية على مدى هذا الزمن الذى امتد ثلاثا وعشرين سنة أبلغ فى التحدى، وأوقع لثبوت الإعجاز خاصة فيما كان
مشركو مكة، ويهود المدينة يسوقونه للنبى صلّى الله عليه وسلّم من أسئلة التحدى بين الحين والآخر ظنا منهم توقيفه وقطعه عن الجواب، فيأتى التنجيم هنا فى مكانه المناسب فى وقته المناسب.
يقول الله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٢).
(٣) التدرج فى التشريع:
ذلك أن النبى صلّى الله عليه وسلّم بعث على رأس أمة استفحلت فيها عادات مرذولة متمكنة فى نفوسهم، ملوثة لعقولهم، راسخة فى وجدانهم، ممتزجة بدمائهم كالاعتقاد الجازم بألوهية الأوثان، وعقرهم للخمر بحيث صارت جل دمائهم التى تسيّر قلوبهم وعقولهم منها.
فلا يعقل فى تدبير الحكماء أن تنزل هذه الأشياء وأمثالها دفعة واحدة. بل تحتاج إلى التدرج بالعلاج شيئا فشيئا.
وهذا معنى كلام أم المؤمنين عائشة- رضى الله عنها- الذى أوردناه سابقا:
«إنما نزل أول ما نزل سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب
(٢) الفرقان: ٣٣.