حفظ كلامه، ومعرفة كتبه ومصنفاته من أن يعرفوا ما صنفه أولا وآخرا.
وحال القرآن فى ذلك أمثل، والحرص عليه أشد غير أنه لم يكن من النبى صلّى الله عليه وسلّم فى ذلك قول ولا ورد عنه أنه قال: اعلموا أن قدر ما نزل بمكة كذا وبالمدينة كذا، وفصّله لهم. ولو كان كذلك منه لظهر وانتشر، وإنما لم يفعله لأنه لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة، وإن وجب فى بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ ليعرف الحكم الذى تضمنهما، فقد يعرف ذلك بغير نصّ الرسول بعينه، وقوله هذا هو الأول المكى، وهذا هو الآخر المدنى. وكذا الصحابة والتابعون من بعدهم لمّا لم يعتبروا أن من فرائض الدين تفصيل جميع المكى والمدنى مما لا يسوغ الجهل به لم تتوفر الدواعى على إخبارهم به، ومواصلة ذكره على أسماعهم، وأخذهم بمعرفته، وإذا كان كذلك ساغ أن يختلف فى بعض القرآن هل هو مكى أو مدنى، وأن يعملوا فى القول بذلك ضربا من الرأى والاجتهاد. وحينئذ فلم يلزم النقل عنهم ذكر المكى والمدنى، ولم يجب على منّ دخل فى الإسلام بعد الهجرة أن يعرف كل آية أنزلت قبل إسلامه: مكية أو مدنية.
فيجوز أن يقف فى ذلك، أو يغلب على ظنه أحد الأمرين.
وإذا كان كذلك بطل ما توهموه من وجوب نقل هذا أو شهرته فى الناس ولزوم العلم به لهم، ووجود الارتفاع فيه» انتهى كلام الباقلانى (١).
وإذا أنت- أيها القارئ- فهمت هذه العبارة خلصت إلى نتيجة وهى:
لا يروعنك اختلاف الصحابة فى ترتيب السور كما حدث فى مواقف كلّ من أبىّ ابن كعب، وابن مسعود وغيرهما، إذ لم يكن خلافهما يؤدى إلى شىء من الانزعاج، ويبقى الأمر بعد ذلك على الاجتهاد والاستقراء العقلى، وهو ما جعل كثيرا من الباحثين يضعون القواعد والضوابط النظرية لتحديد المكى من المدنى، وسنذكرها فيما يلى:

(١) البرهان فى علوم القرآن للزركشى ١/ ١٩١ - ١٩٢.


الصفحة التالية
Icon