- ١٢٢ - يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
- ١٢٣ - وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
قَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ في صدر السورة، وكررت ههنا لِلتَّأْكِيدِ وَالْحَثِّ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ النَّبِيِّ الأُمي الذِي يَجِدُونَ صِفَتَهُ فِي كُتُبِهِمْ وَنَعْتَهُ وَاسْمَهُ وأمره وأُمته فحذرهم مِنْ كِتْمَانِ هَذَا، وَكِتْمَانِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، وَلَا يَحْسُدُوا بَنِي عَمِّهِمْ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ مِنْ إِرْسَالِ الرَّسُولِ الْخَاتَمِ مِنْهُمْ، وَلَا يَحْمِلُهُمْ ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه والحيد عَنْ مُوَافَقَتِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
- ١٢٤ - وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
يَقُولُ تَعَالَى منبِّهاً عَلَى شَرَفِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ إِمَامًا لِلنَّاسِ يُقْتَدَى به في التوحيد، حين قام به كَلَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، ولهذا قال: ﴿وَإِذَا ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ أَيْ وَاذْكُرْ يَا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذي ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليها.. اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم أي اختاره لهم بِمَا كَلَّفَهُ بِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ أي قام بهن كلهن كما قالت تعالى ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفَّى﴾ أَيْ وفَّى جَمِيعَ مَا شَرَعَ لَهُ فَعَمِلَ بِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مستقيم﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ من المشركين * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ المؤمنين﴾. وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿بِكَلِمَاتٍ﴾ أَيْ بِشَرَائِعَ وَأَوَامِرَ وَنَوَاهٍ، ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ أَيْ قَامَ بِهِنَّ، قَالَ: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ أَيْ جَزَاءً عَلَى مَا فَعَلَ كَمَا قَامَ بِالْأَوَامِرِ وَتَرَكَ الزَّوَاجِرَ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ قُدْوَةً وَإِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ وَيُحْتَذَى حَذْوَهُ.
وقد اختلف في تعيين الْكَلِمَاتِ التِي اخْتَبَرَ اللَّهُ بِهَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عليه السلام، فروي عن ابن عباس قال: ابتلاه الله بالمناسك، وروي عنه قال: ابتلاه بِالطَّهَارَةِ خمسٌ فِي الرَّأْسِ، وخمسٌ فِي الْجَسَدِ، فِي الرَّأْسِ: قَصُّ الشَّارِبِ وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَالسِّوَاكُ وَفَرْقُ الرَّأْسِ، وَفِي الْجَسَدِ: تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَالْخِتَانُ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَغَسْلُ أَثَرِ الْغَائِطِ والبول بالماء. وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ -[١١٦]- وَالِاسْتِحْدَادُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ".
وقال عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا ابْتُلِيَ بِهَذَا الدِّينِ أَحَدٌ فَقَامَ بِهِ كُلِّهِ إلا إبراهيم، قال الله تعالى: ﴿وإذا ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ ربُّه بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾، قُلْتُ لَهُ: وَمَا الْكَلِمَاتُ التِي ابْتَلَى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بِهِنَّ فَأَتْمَهُنَّ؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ ثَلَاثُونَ سَهْمًا مِنْهَا عَشْرُ آيات في براءة: ﴿التائبون العابدون﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَعَشْرُ آيَاتٍ فِي أَوَّلِ سورة ﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون﴾ وعشر آيات من الأحزاب: ﴿إِنَّ المسلمين والمسلمات﴾ إلى آخر الآية فأتمهن كلهم فكتبت له براءة. قال الله تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى﴾ وقال محمد بن إسحاق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَلِمَاتُ التِي ابْتَلَى اللَّهُ بِهِنَّ إِبْرَاهِيمَ فَأَتَمَّهُنَّ: فِرَاقُ قَوْمِهِ فِي اللَّهِ حِينَ أُمِرَ بِمُفَارَقَتِهِمْ، وَمُحَاجَّتُهُ نُمْرُوذَ فِي اللَّهِ حِينَ وَقَفَهُ عَلَى مَا وَقَفَهُ عَلَيْهِ مِنْ خَطَرِ الْأَمْرِ الذِي فِيهِ خِلَافُهُ، وَصَبْرُهُ عَلَى قَذْفِهِ إِيَّاهُ فِي النَّارِ لِيَحْرِقُوهُ فِي اللَّهِ عَلَى هَوْلِ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَالْهِجْرَةُ بعد ذلك من ووطنه وَبِلَادِهِ فِي اللَّهِ حِينَ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَنْهُمْ، وما أمر بِهِ مِنَ الضِّيَافَةِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَمَا ابْتُلِيَ بِهِ مِنْ ذَبْحِ ابْنِهِ حِينَ أَمَرَهُ بِذَبْحِهِ، فَلَمَّا مَضَى عَلَى ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ كُلِّهِ وَأَخْلَصَهُ لِلْبَلَاءِ قَالَ اللَّهُ لَهُ: ﴿أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمينْ﴾ عَلَى مَا كَانَ مِنْ خِلَافِ النَّاسِ وَفِرَاقِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جرير: كان الحسن يقول: إي والله، لقد ابْتَلَاهُ بِأَمْرٍ فَصَبَرَ عَلَيْهِ، ابْتَلَاهُ بِالْكَوْكَبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَأَحْسَنَ فِي ذَلِكَ وَعَرَفَ أَنَّ رَبَّهُ دَائِمٌ لَا يَزُولُ، فَوَجَّهَ وَجْهَهُ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ ابْتَلَاهُ بِالْهِجْرَةِ فَخَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ وَقَوْمِهِ حَتَّى لَحِقَ بِالشَّامِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ ابْتَلَاهُ بِالنَّارِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، وابتلاه بذبح ابنه، والختان فصبر على ذلك. وعن الربيع بن أنس قَالَ: الْكَلِمَاتُ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿واخذوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القوعد مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ الْآيَةَ. قَالَ: فَذَلِكَ كُلُّهُ من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم. وَفِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلُ مَنِ اخْتَتَنَ، وَأَوَّلُ مَنْ ضاف الضيف، وَأَوَّلُ مَنْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ قَصَّ الشَّارِبَ، وَأَوَّلُ مَنْ شَابَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّيْبَ قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: وَقَارٌ، قَالَ: يَا رب زدني وقاراً.
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ جَمِيعُ ما ذكر، وجاز أَنْ يَكُونَ بَعْضَ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ الْمُرَادُ عَلَى التَّعْيِينِ إِلَّا بِحَدِيثٍ أَوْ إِجْمَاعٍ. قَالَ: وَلَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ بِنَقْلِ الْوَاحِدِ وَلَا بِنَقْلِ الْجَمَاعَةِ الذي يجب التسليم له. ولما جَعَلَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ إِمَامًا سَأَلَ اللَّهَ أَنْ تَكُونَ الْأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَأُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ، وَأُخْبِرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ظَالِمُونَ وَأَنَّهُ لَا يَنَالُهُمْ عَهْدُ اللَّهِ، وَلَا يكونون أئمةً فلا يقتدي بهم ﴿قَالَ وَمِن ذريَّتي، قَالَ لاَ ينالُ عَهْدِي الظالمين﴾، والدليل على أنه أجيب إلى طلبته قوله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب﴾ فكل نبي أرسله الله، وكل كتاب أنزل اللَّهُ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ، فَفِي ذُرِّيَّتِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فقال مجاهد: لا يكون إمام ظالم يقتدى به. ، وعنه قال: أما من كان منهم صالحاً فأجعله إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ ظَالِمًا فلا ولا نعمة عين. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا، قَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ، ثُمَّ قَالَ ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ وروي عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي -[١١٧]- الظَّالِمِينَ﴾ قَالَ: لَا يَنَالُ عهدُ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ الظَّالِمِينَ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ نَالَهُ الظالم فأمن به وأكل وعاش وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: عهدُ اللَّهِ الذِي عَهِدَ إِلَى عِبَادِهِ دينهُ، يَقُولُ: لَا يَنَالُ دِينُهُ الظَّالِمِينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: ﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إسحق وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ يَقُولُ لَيْسَ كُلُّ ذُرِّيَّتِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ عَلَى الحق. وعن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ قَالَ: «لَا طَاعَةَ إِلَّا في المعروف» (أخرجه ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مرفوعاً) وَقَالَ السُّدي ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾: يَقُولُ عَهْدِي نُبُوَّتِي. فَهَذِهِ أَقْوَالُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وقال ابن خويز منداد: الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكماً ولا مفتياً ولا شاهداً ولا راوياً.