وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كحرمتها بالأمس، ليبلغ الشاهد الغائب (رواه البخاري ومسلم عن أبي شريح العدوي) " فقيل لأبي شريح ما قال لك عمرو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فاراً بدم ولا فاراً بخربة.
فَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَرَّمَهَا، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَلَّغَ عَنِ اللَّهِ حُكْمَهُ فِيهَا، وَتَحْرِيمَهُ إِيَّاهَا وَأَنَّهَا لَمْ تَزَلْ بَلَدًا حَرَامًا عِنْدَ اللَّهِ قَبْلَ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهَا، كَمَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكْتُوبًا عِنْدَ اللَّهِ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَمَعَ هَذَا قال إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا وابعث فيه رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ بِمَا سبق في علمه وقدره.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ تَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، أَوِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَتْبَاعِهِ، فَتُذْكَرُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَدِلَّتِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثقة. وقوله تعالى أخبارا عن الخليل: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً﴾ أَيْ مِنَ الخوف أي لَا يُرْعَبُ أَهْلَهُ، وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ شَرْعًا وَقَدَرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمناً﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً ويُتخطف الناس مِنْ حولهم﴾ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الأحاديث في تحريم القتال فيه، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلَاحَ»، وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً﴾ أَيِ اجْعَلْ هَذِهِ الْبُقْعَةَ بَلَدًا آمِنًا وناسب هُنَاكَ لِأَنَّهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - كَأَنَّهُ وَقَعَ دُعَاءً مرة ثانية بَعْدَ بِنَاءِ الْبَيْتِ وَاسْتِقْرَارِ أَهْلِهِ بِهِ، وَبَعْدَ مَوْلِدِ إِسْحَاقَ الذِي هُوَ أَصْغَرُ سِنًّا مِنْ إسماعيل بثلاث عشرة سنة، ولهذا فِي آخِرِ الدُّعَاءِ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وأسحق إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعاء﴾.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، قَالَ: وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنْ أُبيّ بْنِ كَعْبٍ ﴿قَالَ وَمَن كَفَرَ﴾ الآية هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَهُوَ الذِي صَوَّبَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ الله قَالَ: وَقَرَأَ آخَرُونَ: ﴿قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ فَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَحْجُرُهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دُونَ النَّاسِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَمَنْ كَفَرَ أَيْضًا أَرْزُقُهُمْ كَمَا أَرْزُقُ الْمُؤْمِنِينَ، أَأَخْلُقُ خَلْقًا لَا أَرْزُقُهُمْ؟ أُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾ (أخرجه ابن مردويه وروي نحوه عن مجاهد وعكرمة)، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ﴾، وكقوله تَعَالَى: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أَيْ ثُمَّ أُلْجِئُهُ بَعْدَ مَتَاعِهِ فِي الدُّنْيَا، وَبَسْطِنَا عَلَيْهِ مِنْ ظِلِّهَا ﴿إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْظرهم وَيُمْهِلُهُمْ ثُمَّ يَأْخُذُهُمْ أَخْذَ