وَهَذَا الْقَدْرُ مَرْغُوبٌ فِيهِ شَرْعًا فإنَّ مِنْ تَمَامِ مَحَبَّةِ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُحِبَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ صُلْبِهِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ قَالَ: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الاصنام﴾ وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صدقةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ ولدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ".
﴿وأرنا ناسكنا﴾ قال عطاء: أخرجها لنا، علمناها، وقال مجاهد: ﴿أرنا مَنَاسِكَنَا﴾ مذابحنا. وقال أبو داود الطيالسي عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُري أَوَامِرَ الْمَنَاسِكِ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَسْعَى، فَسَابَقَهُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى بِهِ (مِنًى) فقال: هذا مناخ الناس، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى (جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ) تَعَرَّضَ لَهُ الشَّيْطَانُ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ أتى به إلى (الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى) فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذهب، ثم أتى به إلى (الْجَمْرَةَ الْقُصْوَى) فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ، فَأَتَى بِهِ جَمْعًا فَقَالَ: هَذَا الْمَشْعَرُ، ثُمَّ أَتَى بِهِ عَرَفَةَ فَقَالَ: هذه عرفة، فقال له جبريل: أعرفت؟ " (أخرجه الطيالسي عن ابن عباس).
- ١٢٩ - رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ تَمَامِ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَهْلِ الْحَرَمِ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ، أَيْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ وَافَقَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ الْمُسْتَجَابَةُ قَدَرَ اللَّهِ السَّابِقَ فِي تَعْيِينِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه رسولاً في الأميين إليهم، وإلى سائر الأعجميين مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُنْبِئُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ، دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى بِي، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ، وكذلك أُمَّهات النبيين يرين» (رواهما الإمام أحمد في مسنده)
وقال أبو أمامة قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ أَوَّلُ بَدْءِ أَمْرِكَ؟ قَالَ: «دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى بِي، وَرَأَتْ أُمي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نورٌ أضاءت له قصور الشام» (رواهما الإمام أحمد في مسنده) وَالْمُرَادُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ نَوَّهَ بِذِكْرِهِ وَشَهَرَهُ فِي النَّاسِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمْ يَزَلْ ذِكْرُهُ فِي النَّاسِ مَذْكُورًا مَشْهُورًا سَائِرًا، حَتَّى أَفْصَحَ بِاسْمِهِ خَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَسَبًا وهو (عيسى بن مَرْيَمَ) عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ خَطِيبًا، وَقَالَ: ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أحمد﴾، وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: دَعْوَةُ أَبِي إبراهيم وبشرى عيسى بن مَرْيَمَ. وَقَوْلُهُ: «وَرَأَتْ أُمي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ» قِيلَ: كَانَ مَنَامًا رَأَتْهُ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ وقصَّته عَلَى قَوْمِهَا، فَشَاعَ فِيهِمْ وَاشْتَهَرَ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً! وتخصيصُ الشَّامِ بِظُهُورِ نُورِهِ إِشَارَةٌ -[١٣٠]- إِلَى استقرار دينه ونبوته بِبِلَادِ الشَّامِ، وَلِهَذَا تَكُونُ الشَّامُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَعْقِلًا لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَبِهَا يَنْزِلُ (عِيسَى ابن مريم) إذا نزل بدمشق بمنارة الشَّرْقِيَّةِ الْبَيْضَاءِ مِنْهَا، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» وَفِي صحيح البخاري «وهم بالشأم».
قَوْلِهِ: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ يَعْنِي أُمّة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ له: قد استجيب لك وهو كائن في آخر الزمان، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ يعني السنة، قاله الحسن وقتادة، وَقِيلَ: الْفَهْمُ فِي الدِّينِ، وَلَا مُنَافَاةَ ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي طَاعَةَ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصَ، وَقَالَ محمد بن إسحاق: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة﴾: يعلمهم الخير فيفعلوه والشر فيقوه، ويخبرهم برضا الله عنهم إذا أطاعوه ليستكثروا من طاعته ويجتنبوا ما يسخطه مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ أَيِ الْعَزِيزُ الذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ وأقواله فيضع الأشياء في محالها لعلمه وحكمته وعدله.