- ١٩٥ - وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
قال البخاري عَنْ حُذَيْفَةَ: ﴿وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة﴾ نزلت في النفقة. وعن أسلم أبي عمران قال: كُنَّا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ (عُقْبَةُ بْنُ عامر) وعلى أهل الشام رجل (يزيد بن فضالة ابن عُبَيْدٍ) فَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ صَفٌّ عَظِيمٌ مِنَ الرُّومِ فَصَفَفْنَا لَهُمْ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا فَصَاحَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ لَتَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى غَيْرِ التَّأْوِيلِ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الأنصار، إنا لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ دِينَهُ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ قُلْنَا فِيمَا بَيْنَنَا: لَوْ أَقْبَلْنَا عَلَى أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَاهَا، فأنزل الله هذه الآية (أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، واللفظ لأبي داود)
وعن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة﴾ قال: لَيْسَ ذَلِكَ فِي الْقِتَالِ، إِنَّمَا هُوَ فِي النَّفَقَةِ أَنْ تُمْسِكَ بِيَدِكَ عَنِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا تُلْقِ بِيَدِكَ إِلَى التَّهْلُكَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾، قَالَ: هُوَ الْبُخْلُ، وَقَالَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ أَنْ يُذْنِبَ الرَّجُلُ الذَّنْبَ فَيَقُولُ لَا يُغفر لِي فَأَنْزَلَ الله: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين﴾ وقيل: إِنَّهَا فِي الرَّجُلِ يُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يُغْفَرُ لَهُ فَيُلْقِي بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، أي يستكثر من الذنوب فيهلك. وقيل: أَنَّ رِجَالًا كَانُوا يَخْرُجُونَ فِي بُعُوثٍ يَبْعَثُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ نفقة، فأما أن يُقْطَعُ بِهِمْ وَإِمَّا كَانُوا عِيَالًا، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَلَا يُلْقُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، والتهلُكة أَنْ يَهْلَكَ رِجَالٌ من الجوع والعطش أَوْ مِنَ الْمَشْيِ، وَقَالَ لِمَنْ بِيَدِهِ فَضْلٌ ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ وَمَضْمُونُ الْآيَةِ الأمرُ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الْقُرُبَاتِ وَوُجُوهِ الطَّاعَاتِ، وَخَاصَّةً صَرْفُ الْأَمْوَالِ فِي قِتَالِ الْأَعْدَاءِ، وَبَذْلُهَا فِيمَا يَقْوَى بِهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَالْإِخْبَارُ عَنْ تَرْكِ فِعْلِ ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لَزِمَهُ وَاعْتَادَهُ، ثُمَّ عَطَفَ بِالْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ وَهُوَ أَعْلَى مَقَامَاتِ الطَّاعَةِ فَقَالَ: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يحب المحسنين﴾.
- ١٩٦ - وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر من الهدي وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ -[١٧٣]- بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَحْكَامَ الصِّيَامِ وَعَطَفَ بِذِكْرِ الْجِهَادِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ الْمَنَاسِكِ فَأَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وظاهرُ السِّيَاقِ إِكْمَالُ أَفْعَالِهِمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ أَيْ صُدِدْتُمْ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ وَمُنِعْتُمْ مِنْ إِتْمَامِهِمَا، وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مُلْزِمٌ، سَوَاءٌ قِيلَ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ أَوْ باستحبابها. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ﴾ قَالَ: أَنْ تُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أهلك. وعن سفيان الثوري أنه قال: إِتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ مِنْ أَهْلِكَ لَا تُرِيدُ إِلَّا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَتُهِلُّ مِنَ الْمِيقَاتِ، لَيْسَ أَنْ تَخْرُجَ لِتِجَارَةٍ وَلَا لِحَاجَةٍ، حَتَّى إِذَا كُنْتَ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ قُلْتَ: لَوْ حَجَجْتُ أو اعتمرت وذلك يجزىء وَلَكِنَّ التَّمَامَ أَنْ تَخْرُجَ لَهُ وَلَا تَخْرُجَ لِغَيْرِهِ، وَقَالَ مَكْحُولٌ: إِتْمَامُهُمَا إِنْشَاؤُهُمَا جَمِيعًا مِنَ الميقات، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ قَالَ: مِنْ تَمَامِهِمَا أَنْ تُفرد كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْآخَرِ، وَأَنْ تَعْتَمِرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ معلومات﴾ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلُّهَا فِي ذِي الْقِعْدَةِ (عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ) فِي ذِي الْقِعْدَةِ سنة ست و (عُمْرَةِ الْقَضَاءِ) فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ و (عمرة الجعرانة) في ذي القعدة سنة ثمان و (عمرته التِي مَعَ حَجَّتِهِ) أَحْرَمَ بِهِمَا مَعًا فِي ذي القعدة سنة عشر، وما اعتمر فِي غَيْرِ ذَلِكَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ، وَلَكِنْ قَالَ لأم هانىء: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي» وَمَا ذاك إلا لأنها قَدْ عَزَمَتْ عَلَى الْحَجِّ مَعَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاعْتَاقَتْ عَنْ ذَلِكَ بِسَبَبِ الطُّهْرِ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي الْحَدِيثِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَنَصَّ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهَا. وَاللَّهُ أعلم.
وقال ابن عباس من أحرم بحج أو بعمرة فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحُلَّ حَتَّى يُتِمَّهُمَا، تَمَامُ الْحَجِّ يَوْمَ النَّحْرِ إِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ أنَس وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ فِي إِحْرَامِهِ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ»، وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وقوله تعالى: ﴿فَإِن أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ ذَكَرُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سَنَةِ سِتٍّ أَيْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ حَالَ الْمُشْرِكُونَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ سُورَةَ الْفَتْحِ بِكَمَالِهَا، وَأَنْزَلَ لَهُمْ رُخْصَةً أَنْ يَذْبَحُوا مَا مَعَهُمْ مِنَ الْهَدْيِ وَكَانَ سَبْعِينَ بدنة، وأن يحلقوا رؤوسهم وَأَنْ يَتَحَلَّلُوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُمْ عليه السلام بأن يحلقوا رؤوسهم وأن يتحللوا فَلَمْ يَفْعَلُوا انْتِظَارًا لِلنَّسْخِ حَتَّى خَرَجَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ فَفَعَلَ النَّاسُ وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ قصَّر رَأْسَهُ وَلَمْ يَحْلِقْهُ فَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ»، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «وَالْمُقَصِّرِينَ»، وَقَدْ كَانُوا اشْتَرَكُوا فِي هَدْيِهِمْ ذَلِكَ كُلُّ سَبْعَةٍ فِي بَدَنَةٍ وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَكَانَ مَنْزِلُهُمْ بِالْحُدَيْبِيَةِ خَارِجَ الْحَرَمِ وَقِيلَ: بَلْ كَانُوا على طرف الحرم. فالله أعلم.
-[١٧٤]- وقد اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ - هَلْ يُخْتَصُّ الْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ؟ فَلَا يَتَحَلَّلُ إِلَّا مَنْ حَصَرَهُ عَدُوٌّ، لَا مَرَضٌ ولا غيره - على قولين: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ الْعَدُوِّ فَأَمَّا مَنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ وَجَعٌ أَوْ ضَلَالٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ﴾ فَلَيْسَ الأمن حصراً. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَصْرَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِعَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ أَوْ ضَلَالٍ وَهُوَ التوهان عن الطريق لحديث: «من كسر أو وجع أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حلَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخرى» (رواه أحمد) وروي عن ابن مسعود وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير أَنَّهُمْ قَالُوا: الْإِحْصَارُ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ أو كسر. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَأَنَا شَاكِيَةٌ، فَقَالَ: «حُجِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حبستني».
وقوله تعالى: ﴿فَمَا استيسر من الهدي﴾ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ كَانَ يقول: ﴿فَمَا استيسر من الهدي﴾ شاة، والهدي مِنَ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ والضأن) وهو مذهب الأئمة الأربعة. وروي عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ إِلَّا مِنَ الإبل والبقر، وروي مثله عن سعيد بن جبير.
(قُلْتُ): وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُسْتَنَدَ هَؤُلَاءِ فِيمَا ذَهَبُوا إليه قصة الْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أنه ذبح في تحلله ذلك شَاةً وَإِنَّمَا ذَبَحُوا الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ والبقر كل سبعة منا في بقرة، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ قَالَ: بِقَدْرِ يَسَارَتِهِ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنْ كَانَ مُوسِرًا فَمِنَ الْإِبِلِ، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنم، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ إِجْزَاءِ ذَبْحِ الشَّاةِ فِي الْإِحْصَارِ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ ذَبْحَ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أَيْ مَهْمَا تَيَسَّرَ مِمَّا يُسَمَّى هَدْيًا، والهديُ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَهِيَ (الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ) كَمَا قَالَهُ الْحَبْرُ الْبَحْرُ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ وابن عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أُم الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَهْدَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً غَنَمًا.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ﴾ وَلَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ كَمَا زَعَمَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا حَصَرَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى الْحَرَمِ، حَلَقُوا وَذَبَحُوا هَدْيَهُمْ خَارِجَ الْحَرَمِ، فأما في حالة الْأَمْنِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْحَرَمِ فَلَا يَجُوزُ الْحَلْقُ ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ وَيَفْرَغُ النَّاسِكُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِنْ كَانَ قَارِنًا، أَوْ مِنْ فِعْلِ أَحَدِهِمَا إِنْ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ مُتَمَتِّعًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَفْصَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا مِنَ الْعُمْرَةِ وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ من عمرتك؟ فقال: «إني لبدت رأس وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر» (أخرجه البخاري)
وقوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾. روى البخاري عن عبد الله بن معقل قال: قعدت إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، يعني مسجد الكوفة، فسألته عن فدية مِنْ صِيَامٍ فَقَالَ: حُملتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقملُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ: «مَا كنتُ أَرَى أَنَّ الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ هَذَا أَمَا تَجِدُ شَاةً؟» قُلْتُ: لَا، قَالَ: «صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ -[١٧٥]- طَعَامٍ وَاحْلِقْ رَأْسَكَ» فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً وَهِيَ لَكُمْ عامة، وعن كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: أَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ قِدْرٍ، والقملُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي أَوْ قَالَ حَاجِبِي فَقَالَ: «يُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟» قلتُ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاحْلِقْهُ