- ٢٤٩ - فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قال الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين
يخبر الله تعالى عَنْ (طَالُوتَ) مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حِينَ خَرَجَ فِي جُنُودِهِ وَمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ مَلَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ جَيْشُهُ يَوْمَئِذٍ - فِيمَا ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ - ثَمَانِينَ أَلْفًا فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ قَالَ: ﴿إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ﴾ أي مختبركم بنهر، وَهُوَ نَهْرٌ بَيْنَ الْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ، يَعْنِي نَهْرُ الشَّرِيعَةِ الْمَشْهُورُ ﴿فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ أَيْ فَلَا يَصْحَبُنِي الْيَوْمَ فِي هَذَا الْوَجْهِ، ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ أَيْ فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنِ اغْتَرَفَ مِنْهُ بِيَدِهِ روي، ومن شرب منه لم يرو، فشرب منه سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا وَتَبَقَّى مَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ (هذا قول السدي) وروى الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَازُوا مَعَهُ النَّهْرَ وَمَا جَازَهُ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ بن يونس عن أبي إسحاق عن جده عَنِ الْبَرَاءِ بِنَحْوِهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ الذين آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ﴾ أَيِ اسْتَقَلُّوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ لِقَاءِ عدوّهم لكثرتهم، فشجعهم علماؤهم العالمون بأن عد اللَّهِ حَقٌّ، فَإِنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَيْسَ عَنْ كَثْرَةِ عَدَدٍ وَلَا عِدَدٍ، وَلِهَذَا قَالُوا: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
- ٢٥٠ - وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
- ٢٥١ - فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ
- ٢٥٢ - تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
أَيْ لَمَّا وَاجَهَ حِزْبُ الْإِيمَانِ - وَهُمْ قَلِيلٌ مِنْ أَصْحَابِ طَالُوتَ - لِعَدُوِّهِمْ أَصْحَابِ جَالُوتَ وَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ ﴿قَالُواْ -[٢٢٦]- رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً﴾ أَيْ أَنْزِلْ عَلَيْنَا صَبْرًا مِنْ عِنْدِكَ، ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ أَيْ فِي لِقَاءِ الْأَعْدَاءِ وَجَنَّبْنَا الْفِرَارَ وَالْعَجْزَ ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أَيْ غَلَبُوهُمْ وَقَهَرُوهُمْ بِنَصْرِ اللَّهِ لَهُمْ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} وَكَانَ طَالُوتُ قَدْ وَعَدَهُ إِنْ قَتَلَ جَالُوتَ أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ، وَيُشَاطِرَهُ نِعْمَتَهُ، وَيُشْرِكَهُ فِي أَمْرِهِ، فَوَفَى لَهُ ثُمَّ آلَ الْمُلْكُ إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ مَا مَنَحَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَآتَاهُ الله الملك﴾ الذي كان بد طَالُوتَ، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ أَيِ النُّبُوَّةُ بَعْدَ شَمْوِيلَ، ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ﴾ أَيْ مِمَّا يَشَاءُ اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي اخْتَصَّهُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض﴾، أي لولا أن الله يَدْفَعُ عَنْ قَوْمٍ بِآخَرِينَ، كَمَا دَفَعَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمُقَاتَلَةِ طَالُوتَ وَشَجَاعَةِ دَاوُدَ لَهَلَكُوا، كما قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً﴾ الآية. وعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَدْفَعُ بِالْمُسْلِمِ الصالح عن مائة أهل بيت جِيرَانِهِ الْبَلَاءَ»، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ (أخرجه ابن جرير وقال ابن كثير: إسناده ضغف) وعن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْأَبْدَالُ فِي أُمَّتِي ثلاثون: بهم ترزقون وبهم تمطرون وبهم تنصورن" (أخرجه ابن مردويه عن عبادة بن الصامت مرفوعا) قال قتادة: إني لأرجوا أن يكون الحسن منهم.
وقوله تعالى: ﴿ولكنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ ذو مَنٌّ عَلَيْهِمْ وَرَحْمَةٌ بِهِمْ، يَدْفَعُ عَنْهُمْ بِبَعْضِهِمْ بَعْضًا وَلَهُ الْحُكْمُ وَالْحِكْمَةُ وَالْحُجَّةُ عَلَى خَلْقِهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ أَيْ هَذِهِ آيَاتُ اللَّهِ الَّتِي قَصَصْنَاهَا عَلَيْكَ مِنْ أَمْرِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ بِالْحَقِّ، أَيْ بِالْوَاقِعِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ الْمُطَابِقُ لِمَا بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْحَقِّ، الَّذِي يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿وَإِنَّكَ﴾ يَا مُحَمَّدُ ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ وَهَذَا تَوْكِيدٌ وَتَوْطِئَةٌ لِلْقَسَمِ.