الْمَاكِرِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّآ أحسَّ عِيسَى﴾ أَيِ اسْتَشْعَرَ مِنْهُمُ التَّصْمِيمَ عَلَى الْكُفْرِ وَالِاسْتِمْرَارَ عَلَى الضَّلَالِ، قَالَ: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾؟ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ مَنْ يَتْبَعُنِي إِلَى اللَّهِ، وَقَالَ سفيان الثوري: أي مَنْ أَنْصَارِي مَعَ اللَّهِ، وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ أَقْرَبُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ أَنْصَارِي فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ قَبْلَ أن يهاجر: «من رجل يؤويني حتى أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي» حَتَّى وَجَدَ الْأَنْصَارَ فآووه ونصروه، وهاجر إليهم فواسوه ومنعوه من الأسود والأحمر، رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وأرضاهم. وهكذا عيسى بن مريم عليه السلام انْتَدَبَ لَهُ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَآمَنُوا به ووازروه وَنَصَرُوهُ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، وَلِهَذَا قال الله تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ: ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ، آمَنَّا بِاللَّهِ، وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾، الْحَوَارِيُّونَ قِيلَ: كَانُوا قَصَّارِينَ، وَقِيلَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِبَيَاضِ ثِيَابِهِمْ، وَقِيلَ: صَيَّادِينَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَوَارِيَّ: النَّاصِرُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لما نَدَبَ النَّاسَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ ندبهم فانتدب الزبير رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لكل نبي حواريّ، وحواريَّ الزبير».
عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ قَالَ: مَعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مَلَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِيمَا هَمُّوا بِهِ مِنَ الْفَتْكِ بِعِيسَى عليه السلام وإرادته بالسوء والصلب، حين تمالؤا عَلَيْهِ وَوَشَوْا بِهِ إِلَى مَلِكِ ذَلِكَ الزَّمَانِ - وكان كافراً - أن هنا رَجُلًا يُضِلُّ النَّاسَ، وَيَصُدُّهُمْ عَنْ طَاعَةِ الْمَلِكِ، ويفسد الرَّعَايَا، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَبِ وَابْنِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا تَقَلَّدُوهُ فِي رِقَابِهِمْ، وَرَمَوْهُ بِهِ من الكذب، وأنه ولد زنية، حَتَّى اسْتَثَارُوا غَضَبَ الْمَلِكِ فَبَعَثَ فِي طَلَبِهِ مَنْ يَأْخُذُهُ وَيَصْلُبُهُ وَيُنَكِّلُ بِهِ، فَلَمَّا أَحَاطُوا بَمَنْزِلِهِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ ظَفِرُوا بِهِ نَجَّاهُ الله تعالى مِنْ بَيْنِهِمْ، وَرَفَعَهُ مِنْ رَوْزَنَةِ ذَلِكَ الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ، وَأَلْقَى اللَّهُ شَبَهَهُ عَلَى رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ عِنْدَهُ فِي الْمَنْزِلِ، فَلَمَّا دَخَلَ أولئك اعتقدوه في ظلمة الليل ﴿عيسى﴾ فأخذوه وأهانوه ووصلبوه وَوَضَعُوا عَلَى رَأْسِهِ الشَّوْكَ وَكَانَ هَذَا مِنْ مَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ، فَإِنَّهُ نَجَّى نَبِيَّهُ وَرَفَعَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ يَعْمَهُونَ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ قَدْ ظَفِرُوا بِطَلَبَتِهِمْ، وَأَسْكَنَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ قَسْوَةً وَعِنَادًا لِلْحَقِّ مُلَازِمًا لَهُمْ، وَأَوْرَثَهُمْ ذِلَّةً لَا تُفَارِقُهُمْ إِلَى يَوْمِ التَّنَادِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الماكرين﴾.
- ٥٥ - إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
- ٥٦ - فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
- ٥٧ - وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
- ٥٨ - ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ