أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الْآيَةَ، قال ابن جرير ﴿وَلَوْ أنها كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ الْآيَةَ، قَالَ رَجُلٌ: لَوْ أُمِرْنَا لَفَعَلْنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ مِنْ أُمَّتِي لَرِجَالًا الْإِيمَانُ أثبت في قلوبهم من الجبال الرواس»، وَقَالَ السُّدِّيُّ: افْتَخَرَ (ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ) بْنِ شَمَّاسٍ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْقَتْلَ فَقَتَلْنَا أَنْفُسَنَا، فَقَالَ ثَابِتٌ: وَاللَّهِ لَوْ كَتَبَ عَلَيْنَا ﴿أَنِ اقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾ لفعلنا، فأنزل الله هذه الآية. قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ﴾ أَيْ: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ وَتَرَكُوا مَا يُنْهَوْنَ عَنْهُ، ﴿لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ﴾ أَيْ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَارْتِكَابِ النَّهْيِ ﴿وأشد تثيبتاً﴾ قال السدي: أي وأشد تصديقاً، ﴿وغذا لأَتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّآ﴾ أَيْ مِنْ عِنْدِنَا ﴿أَجْراً عَظِيماً﴾ يعني الجنة، ﴿ولهدذناهم صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾ أَيْ من عمل بما أمره الله به وَرَسُولُهُ وَتَرَكَ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجلَّ يُسْكِنُهُ دَارَ كَرَامَتِهِ، وَيَجْعَلُهُ مُرَافِقًا لِلْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ لِمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الرُّتْبَةِ، وَهُمُ الصِّدِّيقُونَ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ، ثُمَّ عُمُومُ المؤمنين، وهم الصالحون الذي صَلُحَتْ سَرَائِرُهُمْ وَعَلَانِيَتُهُمْ، ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِمْ تَعَالَى، فقال: ﴿حسن أولئك رَفِيقاً﴾ وقال البخاري عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ يَمْرَضُ إِلَّا خيِّر بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»، وَكَانَ في شكواه التي قبض فيها أخذته بُحَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾ فعلمت أنه خُيِّر. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الآخر: «اللهم الرَّفِيقِ الْأَعْلَى» ثَلَاثًا ثُمَّ قَضَى، عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ.
(ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الكريمة)
روى ابن جرير عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ من الأنصار إلى رسول الله ﷺ وَهُوَ مَحْزُونٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا فلان مالي أراك محزوناً»؟ فقال: يا نبي الله شيء فكرت فيه، فقال ما هو؟ قال: نحن نغدوا وَنَرُوحُ نَنْظُرُ إِلَى وَجْهِكَ وَنُجَالِسُكَ، وَغَدًا تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ، فَلَا نَصِلُ إِلَيْكَ، فَلَمْ يَرُدَّ عليه النبي ﷺ شَيْئًا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النبيين﴾ الآية، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَشَّرَهُ وعن عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّكَ لَأَحَبُّ إليَّ مِنْ نَفْسِي، وَأَحَبُّ إليَّ مِنْ أَهْلِي، وَأَحَبُّ إليَّ مِنْ وَلَدِي، وَإِنِّي لَأَكُونُ فِي الْبَيْتِ فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَّى آتِيَكَ فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِي وَمَوْتَكَ عَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دخلتَ الْجَنَّةَ رفعتَ مَعَ النبييّن، وإن دخلتُ الجنة خشيت أن لا أَرَاكَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَتْ عَلَيْهِ ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾.
وثبت في صحيح مسلم عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوُضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: سَلْ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟» قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» وقال الإمام أحمد عن عمروا بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ؛ وَصَلَّيْتُ الْخَمْسَ، وَأَدَّيْتُ زكاة