وَكَانُوا مَأْمُورِينَ بِالصَّفْحِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّبْرِ إِلَى حِينٍ، وَكَانُوا يَتَحَرَّقُونَ وَيَوَدُّونَ لَوْ أُمِرُوا بِالْقِتَالِ لِيَشْتَفُوا مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَلَمْ يَكُنِ الْحَالُ إذا ذَاكَ مُنَاسِبًا لِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا قِلَّةُ عَدَدِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَثْرَةِ عَدَدِ عَدُّوِهِمْ، وَمِنْهَا كَوْنُهُمْ كَانُوا فِي بَلَدِهِمْ وَهُوَ بَلَدٌ حَرَامٌ وَأَشْرَفُ بِقَاعِ الْأَرْضِ فَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ فِيهِ ابتداء كما يقال، فَلِهَذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْجِهَادِ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ لَمَّا صارت لهم دار منعة وَأَنْصَارٌ، وَمَعَ هَذَا لَمَّا أُمِرُوا بِمَا كَانُوا يَوَدُّونَهُ، جَزِعَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ وَخَافُوا مِنْ مُوَاجَهَةِ النَّاسِ خَوْفًا شَدِيدًا: ﴿وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ أي لولا أَخَّرْتَ فَرْضَهُ إِلَى مُدَّةٍ أُخْرَى فَإِنَّ فِيهِ سفك الدماء، ويتم الأولاد، وتأَيَّمَ النساء، وهذه الآية كقوله تَعَالَى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ﴾ الآيات. عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَأَصْحَابًا لَهُ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَقَالُوا يَا نبي الله: كنا في عزة وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ، فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّةً قَالَ: «إني أمرت بالعفوا فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ» فَلَمَّا حَوَّلَهُ اللَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُ بِالْقِتَالِ فَكَفُّوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ (رواه ابن أبي حاتم والنسائي والحاكم) الآية. وقال السُّدِّيِّ: لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ إِلَّا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، فَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ، فَلَمَّا فرض عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ وَهُوَ الْمَوْتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى﴾ أَيْ آخِرَةُ الْمُتَّقِي خَيْرٌ مِنْ دُنْيَاهُ ﴿وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ أَيْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، بَلْ تُوَفَّوْنَهَا أَتَمَّ الْجَزَاءِ، وَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ لَهُمْ عَنِ الدُّنْيَا وَتَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَتَحْرِيضٌ لَهُمْ على الجهاد، وقال ابن أبي حاتم عن هشام قَالَ: قَرَأَ الْحَسَنُ ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا صَحِبَهَا عَلَى حَسَبِ ذلك وما الدُّنْيَا كُلُّهَا أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا إِلَّا كَرَجُلٍ نَامَ نَوْمَةً فَرَأَى فِي مَنَامِهِ بَعْضَ مَا يُحِبُّ، ثُمَّ انْتَبَهَ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: كَانَ أَبُو مصهر ينشد:
ولا خير في الدنيا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ * مِنَ اللَّهِ فِي دَارِ الْمُقَامِ نَصِيبُ
فِإِنْ تُعْجِبِ الدُّنْيَا رِجَالًا فإنها * متاع قليل والزوال قريب
وقوله تَعَالَى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾ أَيْ أَنْتُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْمَوْتِ لا محالة وَلاَ ينجوا مِنْهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ الآية، وقال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ﴾ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ صَائِرٌ إِلَى الْمَوْتِ لَا مَحَالَةَ، وَلاَ يُنْجِيهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ سواء جَاهَدَ أَوْ لَمْ يُجَاهِدْ فَإِنَّ لَهُ أَجَلًا محتوماً، ومقاماً مَقْسُومًا، كَمَا قَالَ (خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ) حِينَ جاء الْمَوْتُ عَلَى فِرَاشِهِ: لَقَدْ شَهِدْتُ كَذَا وَكَذَا مَوْقِفًا، وَمَا مِنْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِي إِلَّا وَفِيهِ جُرْحٌ مِنْ طَعْنَةٍ أَوْ رَمْيَةٍ، وَهَا أَنَا أَمُوتُ عَلَى فِرَاشِي، فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾ أي حصينة منيعة عالية رفيعة، أَيْ لَا يُغْنِي حَذَرٌ وَتَحَصُّنٌ مِنَ الْمَوْتِ كَمَا قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى:
وَمَنْ هاب أسباب المنايا ينلنه * وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بسُلَّم
ثُمَّ قِيلَ: المُشَيَّدة هِيَ المُشَيَّدة كَمَا قَالَ (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) وَقِيلَ: بَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُشَيَّدَةَ بِالتَّشْدِيدِ هِيَ الْمُطَوَّلَةُ، وَبِالتَّخْفِيفِ هِيَ الْمُزَيَّنَةُ بِالشَّيْدِ وهو الجص.