وغيرهما من الأئمة، وَمِنْ قَائِلٍ: يَكْفِي مُطْلَقُ السَّفَرِ سَوَاءٌ كَانَ مُبَاحًا أَوْ مَحْظُورًا حَتَّى لَوْ خَرَجَ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ تَرَخَّصَ لِوُجُودِ مُطْلَقِ السَّفَرِ وهذا قول أبي حنيفة وَالثَّوْرِيِّ وَدَاوُدَ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فَقَدْ يَكُونُ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ حال نزل هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ فِي مَبْدَأِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ كَانَ غَالِبُ أَسْفَارِهِمْ مَخُوفَةً، بَلْ مَا كَانُوا يَنْهَضُونَ إِلَّا إِلَى غَزْوٍ عَامٍّ، أَوْ في سرية خاصة، وسائر الأحيان حرب للإسلام وَأَهْلِهِ، وَالْمَنْطُوقُ إِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ أَوْ على حادثة فَلَا مَفْهُومَ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تحصناً﴾ وكقوله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ من نسائكم﴾. وقال الإمام أحمد عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمية قَالَ: سَأَلْتُ عُمَرَ بن الخطاب قلت له قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وَقَدْ أمن الناس، فقال لي عمر رضي الله عنه: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسلأت رسول الله عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصْدَّقَ اللَّهُ بِهَا عليكم فاقبلوا صدقته». وعن أَبِي حَنْظَلَةَ الْحَذَّاءِ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ صَلَاةِ السَّفَرِ فَقَالَ: رَكْعَتَانِ، فَقُلْتُ أَيْنَ يقوله: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وَنَحْنُ آمِنُونَ، فَقَالَ: سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أخرجه ابن أبي شيبة) وقال ابن مردويه عن أبي الوداك قال: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: هِيَ رُخْصَةٌ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ فَإِنْ شئتم فردوهما. وقال أبو بكر بن أبي شيبة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَكَّةَ والمدينة ونحن آمنوا لا نخاف بينهم ركعتين ركعتين. وقال البخاري عن أنس يَقُولُ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ، قُلْتُ: أَقَمْتُمْ بِمَكَّةَ شَيْئًا قَالَ: أَقَمْنَا بِهَا عشراً. وقال الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعتين وأبي بكر وعمر وعثمان صدراً من إمارته ثم أتمها، وحدثنا إبراهيم قال: سمعت عبد الله بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَقِيلَ فِي ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْتُ مَعَ عمر ابن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان (أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري).
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ دَالَّةٌ صَرِيحًا عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ لَيْسَ مَنْ شَرْطِهِ وُجُودُ الْخَوْفِ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ القصر ههنا إِنَّمَا هُوَ قَصْرُ الْكَيْفِيَّةِ لَا الْكَمِّيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَاعْتَضْدُوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: فُرَضَتِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي السِّفْرِ وَالْحَضَرِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السفر؛ وزيد في صلاة الحضر، قَالُوا: فَإِذَا كَانَ أَصْلُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ اثنتين فكيف يكون المراد بالقصر ههنا قَصْرَ الْكَمِّيَّةِ لِأَنَّ مَا هُوَ الْأَصْلُ لَا يُقَالُ فِيهِ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَاةِ﴾ وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى هذا ما رواه الإمام أحمد عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، زاد مسلم والنسائي عن عبد الله بن عابس قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الخوف ركعة، فَكَمَا يُصَلَّى فِي الْحَضَرِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا فَكَذَلِكَ يصلي في السفر. فَهَذَا ثَابِتٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ