﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يضل عليها﴾، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَن عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾ لَمَّا ذَكَرَ البصائر قال: ﴿وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾ أي إنما يعود وباله عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ التي فِي الصدور﴾، ﴿وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ أَيْ بِحَافِظٍ وَلَا رقيب، بل إنما أَنَا مُبَلِّغٌ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ﴾ أَيْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ بَيَانِ التَّوْحِيدِ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، هَكَذَا نُوَضِّحُ الْآيَاتِ وَنُفَسِّرُهَا وَنُبَيِّنُهَا فِي كُلِّ مَوْطِنٍ لِجَهَالَةِ الْجَاهِلِينَ، وَلِيَقُولَ الْمُشْرِكُونَ وَالْكَافِرُونَ الْمُكَذِّبُونَ دَارَسْتَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ قَبْلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وقارأتهم، وتعلمت منهم (وهو قَوْلِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وغيرهم). روي عن عمرو بن كيسان قال، سمعت ابن عباس يقول: دارست: تلوت خاصمت جادلت، وهذا كقوله تعالى إخباراً عن كذبهم وعنادهم: ﴿وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها﴾ الآية، وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ زَعِيمِهِمْ وَكَاذِبِهِمْ ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾، وقوله: ﴿وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يعلمون﴾ ولنوضحنه لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَيَتَّبِعُونَهُ، وَالْبَاطِلَ فَيَجْتَنِبُونَهُ، فَلِلَّهِ تَعَالَى الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي إِضْلَالِ أُولَئِكَ وَبَيَانِ الحق لهؤلاء، كقوله تَعَالَى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ الآية، وكقوله: ﴿لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الله لهادي الذين آمنوا إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.
وقال تَعَالَى: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾، وقال: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خساراً﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عمى﴾، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ وَأَنَّهُ يُضِلُّ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ، ولهذا قال ها هنا: ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، وقرأ بعضهم ﴿درسْتَ﴾ أي قرأت وتعلمت (وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد والسدُّي والضحّاك)، قَالَ الْحَسَنُ ﴿وَلِيَقُولُواْ دَرَسَتْ﴾ يَقُولُ: تَقَادَمَتْ وَانْمَحَتْ، وقال عبد الرزاق إن صبياناً يقرأون ﴿دارست﴾ وإنما هي درست. وقال شعبة هي في قراءة ابن مسعود: دَرَسَت، يعني بِغَيْرِ أَلْفٍ بِنَصْبِ السِّينِ وَوَقْفٍ عَلَى التَّاءِ، قال ابْنُ جَرِيرٍ وَمَعْنَاهُ: انْمَحَتْ وَتَقَادَمَتْ، أَيْ إِنَّ هَذَا الَّذِي تَتْلُوهُ عَلَيْنَا قَدْ مَرَّ بِنَا قديماً وتطاولت مدته.
- ١٠٦ - اتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ
- ١٠٧ - وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنِ اتَّبَعَ طَرِيقَتَهُ: ﴿اتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِّن رَّبِّكَ﴾ أَيِ اقْتَدِ بِهِ وَاقْتَفِ أَثَرَهُ وَاعْمَلْ بِهِ، فَإِنَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ أَيِ اعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ وَاحْتَمِلْ أَذَاهُمْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ لَكَ وَيَنْصُرَكَ وَيُظْفِرَكَ عَلَيْهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ حِكْمَةً فِي إِضْلَالِهِمْ، فَإِنَّهُ لَوْ شاء لَهَدَى الناس جَمِيعاً، ولو شاء لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ﴾، أَيْ بَلْ لَهُ الْمَشِيئَةُ -[٦٠٧]- وَالْحِكْمَةُ فِيمَا يختاروه لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ أَيْ حَافِظًا تَحْفَظُ أقوالهم وأعمالهم، ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ أَيْ مُوَكَّلٍ عَلَى أَرْزَاقِهِمْ وَأُمُورِهِمْ، ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾، وقال: ﴿إنما عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب﴾.