فَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً﴾ فَأَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ كَيْفَ يَكُونُ لَوْ خَرَجُوا وَمَعَ هَذَا مَا خَرَجُوا، كما قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ
اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تثبيتاً﴾
.
- ٤٨ - لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُحَرِّضًا لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ: ﴿لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الْأُمُورَ﴾ أَيْ لَقَدْ أَعْمَلُوا فِكْرَهُمْ وَأَجَالُوا آرَاءَهُمْ فِي كَيْدِكَ وَكَيْدِ أَصْحَابِكَ وخذلان دينك وإخماده مُدَّةً طَوِيلَةً، وَذَلِكَ أَوَّلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ رَمَتْهُ الْعَرَبُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَحَارَبَتْهُ يَهُودُ الْمَدِينَةِ وَمُنَافِقُوهَا فَلَمَّا نَصَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَعْلَى كَلِمَتَهُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ، فَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا، ثُمَّ كُلَّمَا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ غَاظَهُمْ ذَلِكَ وَسَاءَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾.
- ٤٩ - وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَقُولُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ ﴿ائْذَنْ لِي﴾ فِي الْقُعُودِ، ﴿وَلاَ تَفْتِنِّي﴾ بِالْخُرُوجِ مَعَكَ بِسَبَبِ الْجَوَارِي مِنْ نساء الروم، قال تَعَالَى: ﴿أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ﴾ أَيْ قَدْ سَقَطُوا فِي الْفِتْنَةِ بِقَوْلِهِمْ هَذَا، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جَهَازِهِ (لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ): «هَلْ لَكَ يَا جَدُّ الْعَامَ فِي جِلَادِ بني الأصفر؟» فقال: يا رسول الله أو تأذن لِي وَلَا تَفْتِنِّي، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي مَا رَجُلٌ أَشَدُّ عَجَبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي، وَإِنِّي أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لَا أَصْبِرُ عَنْهُنَّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «قَدْ أَذِنْتُ لَكَ»، فَفِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي﴾ (أخرجه محمد بن إسحاق عن الزهري وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وغير واحد، وكان الجد بن قيس من أشراف بني سلمة) الآية: أي إن كان يَخْشَى مِنْ نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ به، فما سقط فيه من الفتنة لتخلفه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم، ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ أَيْ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا وَلَا مَحِيصَ وَلَا مَهْرَبَ.
- ٥٠ - إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ
- ٥١ - قُلْ لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون
يعلم تبارك وتعالى نبيَّه ﷺ بعدواة هَؤُلَاءِ لَهُ لِأَنَّهُ مَهْمَا أَصَابَهُ مِنْ حَسَنَةٌ، أَيْ فَتْحٍ وَنَصْرٍ وَظَفَرٍ عَلَى الْأَعْدَاءِ مِمَّا يَسُرُّهُ وَيَسُرُّ أَصْحَابُهُ سَاءَهُمْ ذَلِكَ، ﴿وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ﴾ (في اللباب: أخرج ابن أبي حاتم: جعل المنافقون المتخلفون بالمدينة يخبرون عن النبي ﷺ أخبار السوء، ويقولون: إنه هو وأصحابه، فساءهم ذلك، فأنزل الله: ﴿إن تصبك حسنة... ﴾ الآية) أي قد احترزنا -[١٤٨]- من متابعته قَبْلِ هَذَا، ﴿وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ﴾ فَأَرْشَدَ اللَّهُ تعالى رسول الله ﷺ إلى جَوَابِهِمْ فِي عَدَاوَتِهِمْ هَذِهِ التَّامَّةِ، فَقَالَ ﴿قُل﴾ أَيْ لَهُمْ، ﴿لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ الله لَنَا﴾ أي نحن تحت مشيئته وَقَدَرِهِ، ﴿هُوَ مَوْلاَنَا﴾ أَيْ سَيِّدُنَا وَمَلْجَؤُنَا، ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ أَيْ وَنَحْنُ مُتَوَكِّلُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.


الصفحة التالية
Icon