فقال: يا رسول الله إنك لَمْ تَأْتِهِ لَمْ نَزَلْ نُعَيَّرُ بِهَذَا، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَهُ قَدْ أُدْخِلَ فِي حُفْرَتِهِ، فَقَالَ: «أَفَلَا قَبْلَ أَنْ تُدْخِلُوهُ»، فَأُخْرِجَ مِنْ حُفْرَتِهِ، وَتَفَلَ عَلَيْهِ مِنْ ريقه من قرنه إلى قدمه وألبسه قميصه. وقال البخاري: أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أبي بعدما أُدْخِلَ فِي قَبْرِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، وَوُضِعَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قميصه، والله أعلم.
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ إلى رسول الله ﷺ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَهْلَكَكَ حُبُّ يَهُودٍ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ لِتَسْتَغْفِرَ لِي وَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ لِتُؤَنِّبَنِي، ثُمَّ سَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنَ فِيهِ أَبَاهُ، فَأَعْطَاهُ
إِيَّاهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ وَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا﴾ (أخرجه ابن جرير الطبري) الآية، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَيْهِ لَا يُصَلِّي عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَلَا يقوم على قبره، كما قال قَتَادَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دعي إلى جنازة سَأَلَ عَنْهَا، فَإِنْ أُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا قَامَ فصلى عليها، وإن كان غَيْرَ ذَلِكَ قَالَ لِأَهْلِهَا: «شَأْنُكُمْ بِهَا»، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهَا؛ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَا يُصَلِّي عَلَى جِنَازَةِ مَنْ جُهِلَ حَالُهُ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا (حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ) لِأَنَّهُ كَانَ يعلم أعيان المنافقين، قَدْ أَخْبَرَهُ بِهِمْ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ لَهُ: (صَاحِبُ السر) الذي لا يعلمه غيره أي من الصحابة، وَلَمَّا نَهَى اللَّهُ عزَّ وجلَّ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ لِلِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ كَانَ هَذَا الصَّنِيعُ مِنْ أَكْبَرِ الْقُرُبَاتِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ فَشَرَعَ ذَلِكَ، وَفِي فِعْلِهِ الْأَجْرُ الجزيل، كما ثبت في الصحاح: «مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ» قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: «أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُد»؛ وَأَمَّا الْقِيَامُ عِنْدَ قَبْرِ الْمُؤْمِنِ إِذَا مَاتَ فروى أبو داود عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فرغ من دفن الميت وقف على قبره وَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الآن يسأل» (أخرجه أبو داود في سننه).
- ٨٥ - وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَلِلَّهِ الحمد والمنة.
- ٨٦ - وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مع رسوله استأذنك أولوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ
- ٨٧ - رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا وَذَامًّا لِلْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْجِهَادِ، النَّاكِلِينَ عَنْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَوُجُودِ السَّعَةِ وَالطَّوْلِ، وَاسْتَأْذَنُوا الرَّسُولَ فِي الْقُعُودِ وَقَالُوا: ﴿ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ﴾ وَرَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْعَارِ وَالْقُعُودِ فِي الْبَلَدِ مَعَ النِّسَاءِ، وَهُنَّ الْخَوَالِفُ بَعْدَ خُرُوجِ الْجَيْشِ، فَإِذَا وَقَعَ الْحَرْبُ كَانُوا أَجْبَنَ النَّاسِ، وَإِذَا كَانَ أَمْنٌ كَانُوا أَكْثَرَ النَّاسِ كَلَامًا كَمَا قَالَ تعالى عنهم: {فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِذَا ذَهَبَ


الصفحة التالية
Icon