أنهم إنما يسألون ذلك عِنَادًا وَتَعَنُّتًا فَتَرَكَهُمْ فِيمَا رَابَهُمْ، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لا يؤمن منهم أحد لما فيه من المكابرة كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ﴾ الآية،
وقوله تَعَالَى: ﴿وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً﴾ الآية، وقوله تَعَالَى: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ فمثل هؤلاء لا فائدة من جوابهم لِأَنَّهُ دَائِرٌ عَلَى تَعَنُّتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ لِكَثْرَةِ فُجُورِهِمْ وَفَسَادِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين﴾.
- ٢١ - وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ
- ٢٢ - هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
- ٢٣ - فَلَمَّآ أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ إِذَا أَذَاقَ النَّاسَ رَحْمَةً مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ كَالرَّخَاءِ بَعْدَ الشِّدَّةِ، وَالْخِصْبِ بَعْدَ الْجَدْبِ، وَالْمَطَرِ بَعْدَ الْقَحْطِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ﴿إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا﴾، قَالَ مُجَاهِدٌ اسْتِهْزَاءٌ وتكذيب، ﴿قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً﴾ أَيْ أَشَدُّ اسْتِدْرَاجًا وَإِمْهَالًا حَتَّى يَظُنَّ الظَّانَّ مِنَ الْمُجْرِمِينَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُعَذَّبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي مُهْلَةٍ ثُمَّ يُؤْخَذُ عَلَى غِرَّةٍ مِنْهُ، وَالْكَاتِبُونَ الْكِرَامُ يَكْتُبُونَ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا يَفْعَلُهُ وَيُحْصُونَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَعْرِضُونَهُ عَلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُجَازِيهِ عَلَى النقير وَالْقِطْمِيرِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ أَيْ يَحْفَظُكُمْ وَيَكْلَؤُكُمْ بِحِرَاسَتِهِ، ﴿حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا﴾ أَيْ بِسُرْعَةِ سيرهم رافلين، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ ﴿جَاءَتْهَا﴾ أَيْ تِلْكَ السُّفُنَ ﴿رِيحٌ عَاصِفٌ﴾ أَيْ شَدِيدَةٌ، ﴿وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ﴾ أَيْ اغْتَلَمَ الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ، ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾ أَيْ هَلَكُوا، ﴿دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أَيْ لَا يَدْعُونَ معه صنماً ولا وثناً يفردونه بالدعاء والابتهال، كقوله تَعَالَى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾، ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ﴾ أَيْ هَذِهِ الْحَالُ ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ أَيْ لَا نُشْرِكُ بِكَ أحداً
ولنفردنك بالعبادة كما أفردناك بالدعاء ههنا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ﴾ أَيْ مِنْ تِلْكَ الْوَرْطَةِ، ﴿إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ أَيْ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذلك شَيْءٌ، ﴿كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ﴾، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ أَيْ إِنَّمَا يَذُوقُ وَبَالَ هَذَا الْبَغْيِ أَنْتُمْ أَنْفُسُكُمْ، وَلَا تَضُرُّونَ بِهِ أَحَدًا غَيْرَكُمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرَ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ»، وَقَوْلُهُ: ﴿مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أَيْ إِنَّمَا لَكُمْ مَتَاعٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الدَّنِيئَةِ الْحَقِيرَةِ، ﴿ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ﴾ أَيْ مَصِيرُكُمْ وَمَآلُكُمْ، ﴿فَنُنَبِّئُكُمْ﴾ أَيْ فَنُخْبِرُكُمْ بِجَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ وَنُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمِنْ وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.