يَقُولُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِ نُوحٍ رُسُلاً إلى قومهم فجاؤوهم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أَيْ بِالْحُجَجِ وَالْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى صِدْقِ ما جاؤوهم بِهِ، ﴿فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ﴾، أَيْ فَمَا كَانَتِ الْأُمَمُ لِتُؤْمِنَ بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُمْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُمْ أول ما أرسلوا إليهم، كقوله تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ﴾ الآية، وَقَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ﴾ أَيْ كَمَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ هَؤُلَاءِ، فَمَا آمَنُوا بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الْمُتَقَدِّمِ، هَكَذَا يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ مَنْ أَشْبَهَهُمْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَيَخْتِمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ؛ وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْلَكَ الْأُمَمَ المكذبة وَأَنْجَى مَنْ آمَنَ بِهِمْ وَذَلِكَ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا مِن قَبْلِهِ مِنَ زَمَانِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْإِسْلَامِ، إِلَى أَنْ أَحْدَثَ النَّاسُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نوح﴾ الآية، وَفِي هَذَا إِنْذَارٌ عَظِيمٌ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ كذبوا سيد الرُّسُلِ وَخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ أَصَابَ مَنْ كَذَّبَ بِتِلْكَ الرُّسُلِ مَا ذكره الله تعالى من العذاب وَالنَّكَالِ، فَمَاذَا ظَنَّ هَؤُلَاءِ وَقَدِ ارْتَكَبُوا أَكْبَرَ من أولئك؟
- ٧٥ - ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فرعون وملإيه بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُواْ قَوْماً مُجْرِمِينَ
- ٧٦ - فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ
- ٧٧ - قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ
- ٧٨ - قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا﴾ مِنْ بَعْدِ تِلْكَ الرُّسُلِ ﴿مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ أَيْ قَوْمِهِ، ﴿بِآيَاتِنَا﴾ أَيْ حُجَجِنَا وَبَرَاهِينِنَا، ﴿فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ﴾ أَيْ اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ والانقياد له وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ، ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ﴾،
كَأَنَّهُمْ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ أَقْسَمُوا عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا قَالُوهُ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ الآية، ﴿قَالَ﴾ لَهُمْ ﴿مُوسَى﴾ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ ﴿أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا﴾ أَيْ تَثْنِينَا ﴿عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ أَيْ الدِّينُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، ﴿وَتَكُونَ لَكُمَا﴾ أَيْ لَكَ وَلِهَارُونَ ﴿الْكِبْرِيَاءُ﴾ أَيْ الْعَظَمَةُ وَالرِّيَاسَةُ ﴿فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾. وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَعْجَبِ الْقِصَصِ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ حُذِّرَ مِنْ مُوسَى كُلَّ الْحَذَرِ، فَسَخَّرَهُ الْقَدَرُ: إِنَّ رُبّي على فراشه بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ ثُمَّ تَرَعْرَعَ وَعَقَدَ اللَّهُ لَهُ سَبَبًا أَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَرَزَقَهُ النُّبُوَّةَ والرسالة والتكليم، ولم تزل الآيات تَقُومُ عَلَى يَدَيْ مُوسَى شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَمَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، مِمَّا يُبْهِرُ الْعُقُولَ، وَيُدْهِشُ الألباب، ﴿وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا﴾ وصمم فرعون وملأه قَبَّحَهُمُ اللَّهُ عَلَى التَّكْذِيبِ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَالْجَحَدِ وَالْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ، حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ، وَأَغْرَقَهُمْ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ أَجْمَعِينَ، ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رب العالمين﴾.