أَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا قُلْتُمْ، وَهَذَا
الْقَوْلُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْتَضِدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسواق﴾ الآية، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ الْمُرَادُ بِالْقُرَى الْمُدُنُ لَا أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي الَّذِينَ هُمْ من أجفى الناس طباعاً وأخلاقاً، وَقَوْلُهُ: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ﴾ يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ فِي الْأَرْضِ ﴿فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ كَيْفَ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا، كَقَوْلِهِ: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ﴾ الآية، فَإِذَا اسْتَمَعُوا خَبَرَ ذَلِكَ رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ الْكَافِرِينَ وَنَجَّى الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ كَانَتْ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ أَيْ وَكَمَا نجينا الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ كَتَبْنَا لَهُمُ النَّجَاةَ في الدار الآخرة، وهي خير لهم من الدنيا بكثير، وَأَضَافَ الدَّارَ إِلَى الْآخِرَةِ فَقَالَ: ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ﴾ كما يقال: صلاة الأولى ومسجد الجامع.
- ١١٠ - حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلَا يرد بأسنا عَنِ القوم المجرمين
يذكر تَعَالَى أَنَّ نَصْرَهُ يَنْزِلُ عَلَى رسُلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ عِنْدَ ضَيِّقِ الْحَالِ وانتظار الفرج من الله في أحوج الأوقات إليه، كقوله تعالى: ﴿وزلزوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله﴾ الآية. وَفِي قَوْلِهِ: ﴿كُذِبُواْ﴾ قِرَاءَتَانِ إِحْدَاهُمَا بِالتَّشْدِيدِ ﴿قَدْ كُذّبوا﴾، وَكَذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تقرؤها، قال البخاري عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزبير عن عائشة أنها قَالَتْ لَهُ وَهُوَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تعالى: ﴿حتى إِذَا استيأس الرسل﴾ قال، قلت: أكذبوا أم كذّبوا؟ قالت عائشة: كذّبوا، قلت: فقد استيقنوا أن قومهم كَذَّبُوهُمْ فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ؟ قَالَتْ: أَجَلْ لَعَمْرِي لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ، فَقُلْتُ لَهَا: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبوا﴾؟ قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا، قُلْتُ فَمَا هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَتْ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ، وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمُ النصر ﴿حتى إِذَا استيأس الرُّسُلُ﴾ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَظَنَّتِ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ، جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عند ذلك (أخرجه البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير). وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ بِالتَّخْفِيفِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهَا، فَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ﴾ قَالَ: لَمَّا أَيِسَتِ الرُّسُلُ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُمْ قَوْمُهُمْ، وَظَنَّ قَوْمُهُمْ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمُ النَّصْرُ على ذلك، ﴿فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ﴾، وقال ابن جرير، عن إبراهيم بن أبي حمزة الْجَزْرِيُّ قَالَ، سَأَلَ فَتَى مِنْ قُرَيْشٍ سَعِيدَ بن جبير قال: أخبرنا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَيْفَ هَذَا الْحَرْفُ: فَإِنِّي إذا أتيت عليه تمنيت أن لَا أَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ﴾ قَالَ: نَعَمْ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنْ قَوْمِهِمْ أَنْ يصدقوهم، وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كُذِّبُوا، فَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ رَجُلًا يُدْعَى إِلَى عِلْمٍ فَيَتَلَكَّأُ، لو رحلت إلى اليمن في هذه كان قليلاً (أخرجه ابن جرير الطبري). ثُمَّ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ بِهَذَا الْجَوَابِ، فَقَامَ إِلَى سَعِيدٍ فَاعْتَنَقَهُ، وَقَالَ: فَرَّجَ اللَّهُ عنك كما فرجت عني. وأما ابن مسعود فقال ابن جرير، عن تميم بن حزم، قال: سمعت


الصفحة التالية
Icon