أَجْلِهِ، وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ قَالَ: الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ جملة الكتاب وأصله، وقال ابن جريج عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ قَالَ: الذكر.
- ٤٠ - وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ
- ٤١ - أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
يقول تعالى لرسوله: ﴿وإما نُرِيَنَّكَ﴾ يا محمد بعض الذي نَعِدُ أَعْدَاءَكَ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ فِي الدُّنْيَا، ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ أَيْ قَبْلَ ذَلِكَ ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾ أَيْ إِنَّمَا أَرْسَلْنَاكَ لِتُبَلِّغَهُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ وقد فعلت مَا أُمِرْتَ بِهِ ﴿وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ أَيْ حِسَابُهُمْ وجزاؤهم كقوله تعالى: ﴿إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾. وَقَوْلُهُ: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْ
لَمْ يروا أنا نفتح لمحمد ﷺ الأرض بعد الأرض، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ} قَالَ: خَرَابُهَا، وَقَالَ الْحُسْنُ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ ظُهُورُ الْمُسْلِمِينَ على المشركين، وقال نُقْصَانُ الْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَخَرَابُ الْأَرْضِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لو كانت الأرض تنتقص لضاق عليك حشك (الحُشّ والحِش: البستان، قال في القاموس: الحُشُّ مثلثة: المخرج لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين)، ولكن تنقص الأنفس والثمرات، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ: خَرَابُهَا بِمَوْتِ علمائها وفقهائها وَأَهْلِ الْخَيْرِ مِنْهَا. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: هو موت العلماء، وأنشد أحمد بن نمزال:
الْأَرْضُ تَحْيَا إِذَا مَا عَاشَ عَالِمُهَا * مَتَى يَمُتْ عَالِمٌ مِنْهَا يَمُتْ طَرَفُ
كَالْأَرْضِ تَحْيَا إِذَا مَا الْغَيْثُ حلَّ بِهَا * وَإِنْ أَبَى عَادَ فِي أَكْنَافِهَا التَّلَفُ
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ عَلَى الشِّرْكِ قَرْيَةً بَعْدَ قرية، كقوله: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى﴾ الآية، وهذا اختيار ابن جرير.
- ٤٢ - وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ
عقبى الدار
يقول تعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ بِرُسُلِهِمْ وَأَرَادُوا إخراجهم من بلادهم فمكر الله بهم جعل العاقبة للمتقين كقوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كفروا﴾ الآية، وقوله تَعَالَى: ﴿وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ السَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ وَسَيَجْزِي كل عامل بعمله، ﴿وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ أَيْ لِمَنْ تَكُونُ الدَّائِرَةُ وَالْعَاقِبَةُ لَهُمْ أَوْ لِأَتْبَاعِ الرُّسُلِ، كَلَّا، بَلْ هِيَ لِأَتْبَاعِ الرُّسُلِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
- ٤٣ - وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب
يقول تعالى: يكذبك هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ وَيَقُولُونَ: ﴿لَسْتَ مُرْسَلاً﴾ أَيْ مَا أَرْسَلَكَ اللَّهُ، ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً -[٢٨٨]- بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ أي حسبي الله هو الشَّاهِدُ عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ، شَاهِدٌ عَلَيَّ فِيمَا بَلَّغْتُ عَنْهُ مِنَ الرِّسَالَةِ، وَشَاهِدٌ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ فِيمَا تَفْتَرُونَهُ مِنَ الْبُهْتَانِ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ قِيلَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بن سلام، وهذ الْقَوْلُ غَرِيبٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ إِنَّمَا أَسْلَمُ فِي أَوَّلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَالْأَظْهَرُ فِي هذا ما قاله ابن عباس: هم من اليهود والنصارى، وهو يَشْمَلُ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَجِدُونَ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَنَعْتَهُ فِي كُتُبِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ بِشَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذين يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ الْآيَةَ، وقال تعالى: ﴿أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إسرائيل﴾، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ الْإِخْبَارِ عَنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِهِمُ المنزلة.