مِنْ إِقْلِيمٍ إِلَى إِقْلِيمٍ آخَرَ لِجَلْبِ مَا هنا إلى هناك، وما هناك إلى هنا، وَسَخَّرَ الْأَنْهَارَ تَشُقُّ الْأَرْضَ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قطر، رزقاً للعباد، ﴿وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ﴾ أَيْ يَسِيرَانِ لا يفتران لَيْلًا وَلَا نَهَارًا ﴿لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾، ﴿يغشي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً﴾ فالشمس والقمر يتعاقبان، والليل والنهار يتعارضان، فَتَارَةً يَأْخُذُ هَذَا مِنْ هَذَا فَيَطُولُ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْآخَرُ مِنْ هَذَا فَيَقْصُرُ، ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى إِلاَّ هُوَ العزيز الغفار﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾ يَقُولُ: هَيَّأَ لَكُمْ كُلَّ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ مِمَّا تَسْأَلُونَهُ بِحَالِكُمْ وَقَالِكُمْ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَمَا لم تسألوه، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾، يخبر تعالى عَنْ عَجْزِ الْعِبَادِ عَنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ فَضْلًا عَنِ الْقِيَامِ بِشُكْرِهَا، كَمَا قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ رَّحْمَةِ اللَّهُ: إِنَّ حَقَّ اللَّهِ أَثْقَلُ مِنْ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْعِبَادُ، وَإِنَّ نِعَمَ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهَا الْعِبَادُ، وَلَكِنْ أصحبوا تائبين وأمسوا تائبين. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُودَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عنه ربنا». وَقَدْ رُوِيَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَشْكُرُكَ وَشُكْرِي لَكَ نِعْمَةٌ مِنْكَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الْآنَ شَكَرْتَنِي يَا دَاوُدُ، أَيْ حِينَ اعْتَرَفْتَ بالتقصير عن أداء شكر المنعم. وقال الإمام الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يُؤَدَّى شُكْرُ نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِهِ، إِلَّا بِنِعْمَةٍ حادثة توجب على مؤديها شُكْرَهُ بِهَا، وَقَالَ الْقَائِلُ فِي ذَلِكَ:
لَوْ كان جَارِحَةٍ مِنِّي لَهَا لُغَةٌ * تُثْنِي عَلَيكَ بِمَا أوليتَ مِنْ حَسَنِ
لَكَانَ مَا زَادَ شُكْرِي إِذْ شَكَرْتُ بِهِ * إِلَيْكَ أَبْلُغَ فِي الْإِحْسَانِ والمنن.
- ٣٥ - وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ
- ٣٦ - رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
يَذْكُرُ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَقَامِ مُحْتَجًّا عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِأَنَّ الْبَلَدَ الْحَرَامَ مَكَّةَ، إِنَّمَا وُضِعَتْ أَوَّلَ مَا وُضِعَتْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَتْ عَامِرَةً بِسَبَبِهِ آهِلَةً تَبَرَّأَ مِمَّنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ دَعَا لِمَكَّةَ بِالْأَمْنِ فَقَالَ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً﴾، وَقَدِ اسْتَجَابَ الله له فقال تعالى: ﴿أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حرما آمِناً﴾ الآية. وَقَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البلد آمنا﴾ فعرفه لأنه دَعَا بِهِ بَعْدَ بِنَائِهَا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿الْحَمْدُ للَّهِ الذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وإسحق﴾، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ أَكْبَرُ مِنْ إِسْحَاقَ بِثَلَاثَ عشرة سنة، وقوله: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ يَنْبَغِي لِكُلِّ دَاعٍ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِذُرِّيَّتِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ افْتَتَنَ بِالْأَصْنَامِ خَلَائِقُ مِنَ النَّاسِ، وأنه تبرأ مِمَّنْ عَبَدَهَا وَرَدَّ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ إِنْ شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، كقول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ وليس فيه أَكْثَرُ مِنَ الرَّدِّ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَجْوِيزُ وُقُوعِ ذَلِكَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن وهب، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس﴾ الآية، وَقَوْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عبادك﴾ الآية، ثم رفع يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ أُمَّتِي، اللَّهُمَّ أُمَّتِي، اللهم أمتي» وبكى، فقال الله: اذهب يا جبريل إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ