مذللة لها أي مسهلة عليها حيث شاءت من هَذَا الْجَوِّ الْعَظِيمِ وَالْبَرَارِي الشَّاسِعَةِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْجِبَالِ الشَّاهِقَةِ، ثُمَّ تَعُودُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِلَى بيتا وَمَا لَهَا فِيهِ مِنْ فِرَاخٍ وَعَسَلٍ، فَتَبْنِي الشَّمْعَ مِنْ أَجْنِحَتِهَا، وَتَقِيءُ الْعَسَلَ مِنْ فِيهَا، ثم تصبح إلى مراعيها. وقوله تعالى: ﴿فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً﴾ أَيْ فَاسْلُكِيهَا مُذَلَّلَةً لَكِ، نَصَّ عَلَيْهِ مُجَاهِدٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فيه شفآء للناس﴾ مَا بَيْنَ أَبْيَضَ وَأَصْفَرَ وَأَحْمَرَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْوَانِ الْحَسَنَةِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاعِيهَا وَمَأْكَلِهَا مِنْهَا، وَقَوْلُهُ: ﴿فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ﴾ أَيْ فِي العسل شفاء للناس، أمِنْ أَدْوَاءٍ تَعْرِضُ لَّهُمْ. قَالَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الطِّبِّ النَّبَوِيِّ: لَوْ قَالَ فِيهِ الشِّفَاءُ لِلنَّاسِ
لَكَانَ دَوَاءً لِكُلِّ دَاءٍ؛ وَلَكِنْ قال: فيه شفآء للناس (روي عن مجاهد وابن جرير في قوله: ﴿فيه شفآء للناس﴾ أن المراد به الْقُرْآنَ وَهَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنْ ليس هو الظاهر ههنا من سياق الآية، فإن الآية ذكر فيها العسل فالضمير يعود إليه والله أعلم)، أَيْ يَصْلُحُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَدْوَاءٍ بَارِدَةٍ، فإنه حار، والشيء يداوى بضده. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رجلاً جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ، فَقَالَ: «اسقه عسلاً» فذهب فَسَقَاهُ عَسَلًا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله سقيته عسلاً فما زاده اسْتِطْلَاقًا. قَالَ: «اذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلًا»، فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عَسَلًا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا زَادَهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ، اذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلًا»، فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عسلاً فبرئ (أخرجه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالطِّبِّ: كَانَ هَذَا الرَّجُلُ عِنْدَهُ فَضَلَاتٌ، فَلَمَّا سَقَاهُ عَسَلًا وَهُوَ حَارٌّ تحللت فأسرعت في الاندفاع، فزاده إسهالاً، فَاعْتَقَدَ الْأَعْرَابِيُّ أَنَّ هَذَا يَضُرُّهُ وَهُوَ مَصْلَحَةٌ لِأَخِيهِ، ثُمَّ سَقَاهُ فَازْدَادَ التَّحْلِيلُ وَالدَّفْعُ، ثُمَّ سقاه فكذلك، فلما اندفعت
الفضلات لفاسدة الْمُضِرَّةُ بِالْبَدَنِ اسْتَمْسَكَ بَطْنُهُ وَصَلُحَ مِزَاجُهُ وَانْدَفَعَتِ الْأَسْقَامُ وَالْآلَامُ بِبَرَكَةِ إِشَارَتِهِ عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أفضل الصلاة والسلام. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ كان يعجبه الحلواء والعسل. وفي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ".
وَقَالَ البخاري، عَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "إن كان فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ: فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ توافق الداء، وما أحب أن أكتوي". وفي الحديث: "عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن" (رواه ابن ماجه عن ابن مسعود مرفوعاً، قال ابن كثير: وإسناده جيد)، وعن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمُ الشِّفَاءَ فَلْيَكْتُبْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي صَحْفَةٍ، وَلْيَغْسِلْهَا بِمَاءِ السَّمَاءِ، وَلْيَأْخُذْ مِنِ امْرَأَتِهِ دِرْهَمًا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهَا، فَلْيَشْتَرِ بِهِ عَسَلًا فَلْيَشْرَبْهُ كذلك فَإِنَّهُ شِفَاءٌ، أَيْ مِنْ وُجُوهٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ ورحمة للمؤمنين﴾، وقال: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مآء مباركا﴾، وَقَالَ: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مريئا﴾، وقال في العسل: ﴿فيه شفآء للناس﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أَيْ إِنَّ فِي إِلْهَامِ اللَّهِ لِهَذِهِ الدَّوَابِّ الضَّعِيفَةِ الْخِلْقَةِ إِلَى السُّلُوكِ فِي هَذِهِ الْمَهَامَةِ وَالِاجْتِنَاءِ مِنْ سَائِرِ الثِّمَارِ، ثُمَّ جَمْعِهَا لِلشَّمْعِ والعسل وهو أَطْيَبِ الْأَشْيَاءِ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِي عَظَمَةِ خَالِقِهَا وَمُقَدِّرِهَا وَمُسَخِّرِهَا وَمُيَسِّرِهَا فَيَسْتَدِلُّونَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ الْقَادِرُ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ الْكَرِيمُ الرَّحِيمُ.