أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولئن دعاني لأجبيبنه، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَ بِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلَا بد مِنْهُ". فَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْلَصَ الطَّاعَةَ صَارَتْ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، فلا يسمع إلا لله، ولا يبصر إِلاَّ للَّهِ أَيْ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُ، وَلَا يَبْطِشُ وَلَا يَمْشِي إِلَّا فِي طَاعَةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ الصحيح: «فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، كقوله تعالى فِي الْآيَةِ الأُخرى: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾، ثُمَّ نبَّه تَعَالَى عِبَادَهُ إِلَى النَّظَرِ إِلَى الطَّيْرِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَيْفَ جَعَلَهُ يطير بجناحين بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يملكه هناك إلا الله بقدرته تعالى التي جَعَلَ فِيهَا قُوًى تَفْعَلُ ذَلِكَ، وَسَخَّرَ الْهَوَاءَ يحملها، وبسير الطير كذلك كما قال تعالى في سورة الملك: ﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾، وقال ههنا: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.
- ٨٠ - وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ
- ٨١ - وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ - ٨٢ - فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
- ٨٣ - يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ
يَذْكُرُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَمَامَ نِعَمِهِ عَلَى عَبِيدِهِ بِمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي هِيَ سَكَنٌ لَهُمْ يَأْوُونَ إِلَيْهَا، وَيَسْتَتِرُونَ بِهَا وَيَنْتَفِعُونَ بها بسائر وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ. وَجَعَلَ لَهُمْ أَيْضًا مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا، أَيْ مِنَ الْأَدَمِ يَسْتَخِفُّونَ حَمْلَهَا فِي أَسْفَارِهِمْ لِيَضْرِبُوهَا لَهُمْ فِي إِقَامَتِهِمْ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ. وَلِهَذَا قَالَ: ﴿تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا﴾ أَيِ الْغَنَمِ، ﴿وَأَوْبَارِهَا﴾ أَيِ الْإِبِلِ، ﴿وَأَشْعَارِهَآ﴾ أَيِ الْمَعْزِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْأَنْعَامِ ﴿أَثَاثاً﴾ أَيْ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ أَثَاثًا، وَهُوَ الْمَالُ وَقِيلَ: الْمَتَاعُ، وَقِيلَ: الثِّيَابُ، وَالصَّحِيحُ أَعَمُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فَإِنَّهُ يُتَّخَذُ مِنَ الْأَثَاثِ الْبُسُطُ وَالثِّيَابُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَيُتَّخَذُ مَالًا وتجارة. وَقَوْلُهُ: ﴿إِلَى حِينٍ﴾ أَيْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى وَوَقْتٍ مَعْلُومٍ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً﴾، قَالَ قَتَادَةُ يَعْنِي الشَّجَرَ ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً﴾ أَيْ حُصُونًا وَمَعَاقِلَ كَمَا ﴿جَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ وَهِيَ الثِّيَابُ مِنَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّوفِ ﴿وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ﴾ كالدروع من الحديث الْمُصَفَّحِ وَالزَّرَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ هَكَذَا يَجْعَلُ لَكُمْ مَا تَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى أَمْرِكُمْ وَمَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ لِيَكُونَ عَوْنًا لَكُمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ أي من الإسلام، وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِن تَوَلَّوْا﴾ أَيْ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ وَهَذَا الِامْتِنَانِ فَلَا عَلَيْكَ مِنْهُمْ، ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ وَقَدْ أَدَّيْتَهُ إِلَيْهِمْ، ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾ أَيْ يَعْرِفُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُسْدِي إِلَيْهِمْ ذَلِكَ وَهُوَ الْمُتَفَضِّلُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَمَعَ هَذَا


الصفحة التالية
Icon