هَذِهِ الْقِدْرِ السَّاعَةَ فِي اللَّهِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ لِي بِعَدَدِ كُلِّ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِي نَفْسٌ تُعَذَّبُ هَذَا الْعَذَابَ فِي اللَّهِ. وَفِي بعض الروايات: أنه سجنه ومنع منه الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ أَيَّامًا، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِخَمْرٍ وَلَحْمِ خِنْزِيرٍ، فَلَمْ يَقْرَبْهُ، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْكُلَ؟ فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ حَلَّ لِي، وَلَكِنْ لَمْ أَكُنْ لِأُشَمِّتَكَ بي، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: فقبّلْ رَأْسِي، وَأَنَا أُطْلِقُكَ، فَقَالَ: وَتُطْلِقُ مَعِي جَمِيعَ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: نَعَمْ، فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، فَأَطْلَقَهُ، وَأَطْلَقَ مَعَهُ جَمِيعَ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقَبِّلَ رَأْسَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ وَأَنَا أَبْدَأُ، فَقَامَ فقبل رأسه رضي الله عنهما.
- ١١٠ - ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
- ١١١ - يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
هَؤُلَاءِ صِنْفٌ آخَرُ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ مُهَانِينَ فِي قَوْمِهِمْ فوافقوهم على الفتنة، إِنَّهُمْ أَمْكَنَهُمُ الْخَلَاصُ بِالْهِجْرَةِ فَتَرَكُوا بِلَادَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ وَغُفْرَانِهِ، وَانْتَظَمُوا فِي سِلْكِ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَاهَدُوا مَعَهُمُ الْكَافِرِينَ وَصَبَرُوا، فَأَخْبَرَ تَعَالَى إِنَّهُ مِن بَعْدِهَا أَيْ تِلْكَ الْفِعْلَةِ وَهِيَ الْإِجَابَةُ إِلَى الْفِتْنَةِ لَغَفُورٌ لَهُمْ رَحِيمٌ بِهِمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ﴾ أَيْ تُحَاجُّ ﴿عَن نَّفْسِهَا﴾ لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاجُّ عَنْهَا لَا أَبٌ وَلَا ابْنٌ وَلَا أَخٌ وَلَا زَوْجَةٌ ﴿وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ﴾ أَيْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ أَيْ لَا يُنْقَصُ مِنْ ثَوَابِ الْخَيْرِ، وَلَا يُزَادُ عَلَى ثَوَابِ الشَّرِّ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً.
- ١١٢ - وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
- ١١٣ - وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
هَذَا مَثَلٌ أُرِيدَ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ؟ فَإِنَّهَا كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً مُسْتَقِرَّةً يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهَا، وَمَنْ دخلها كان آمناً لا يخاف، كما قال تعالى: ﴿أو لم نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كل شيء رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا﴾، وهكذا قال ههنا: ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً﴾، أَيْ هَنِيئًا سَهْلًا، ﴿مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ﴾ أَيْ جَحَدَتْ آلاء الله عليها وأعظمها بِعْثَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وبئس القرار﴾ وَلِهَذَا بَدَّلَهُمُ اللَّهُ بِحَالَيْهِمُ الْأَوَّلَيْنِ خِلَافَهُمَا، فَقَالَ: ﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾ أَيْ أَلْبَسَهَا وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليها ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ وَيَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِن كُلِّ مَكَانٍ، وذلك أنهم اسْتَعْصَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَوْا إِلَّا خِلَافَهُ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ، فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ أَذْهَبَتْ كُلَّ شَيْءٍ لهم، فأكلوا العلهز، وهو وبر يخلط بدمه إذا نحروه. وقوله: ﴿والخوف﴾ وذلك أنهم بُدِّلُوا بِأَمْنِهِمْ خَوْفًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، حِينَ هَاجَرُوا إِلَى المدينة من سطوته وسراياه وجيوشه، وجعل كل ما لهم في دمار