(يتبع... )
(تابع... ٣): ١ - سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الحرام إلى......
فَصْلٌ
وَإِذَا حَصَلَ الْوُقُوفُ عَلَى مَجْمُوعِ هَذِهِ الأحاديث يَحْصُلُ مَضْمُونُ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ مِنْ مِسْرَى رسول الله ﷺ من مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَنَّهُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، قال الزهري: كان الإسراء قبل الهجرة وَالْحَقُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُسْرِيَ بِهِ (يَقَظَةً) لَا (مَنَامًا) مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ راكباً على الْبُرَاقَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ رَبَطَ الدَّابَّةَ عِنْدَ الْبَابِ وَدَخَلَهُ فَصَلَّى فِي قِبْلَتِهِ تحية المسجد ركعتين، ثم أتي بالمعراج وَهُوَ كَالسُّلَّمِ ذُو دَرَجٍ يُرْقَى فِيهَا فَصَعِدَ فِيهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِلَى بَقِيَّةِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، فَتَلَقَّاهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا، وسلم على الأنبياء الَّذِينَ فِي السَّمَاوَاتِ بِحَسْبِ مَنَازِلِهِمْ وَدَرَجَاتِهِمْ، حَتَّى مَرَّ بِمُوسَى الْكِلِيمِ فِي السَّادِسَةِ، وَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ في السابعة، ثم جاوز منزلتيهما صلى الله وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمَا وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مُسْتَوًى يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ، أَيْ أَقْلَامَ الْقَدَرِ، بِمَا هُوَ كَائِنٌ، وَرَأَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَغَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَظَمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ فَرَاشٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَلْوَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وغشيتها الملائكة، ورأى هناك جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، وَرَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ. وَرَأَى الْبَيْتَ المعمور وإبراهيم الخليل يأتي الْكَعْبَةِ الْأَرْضِيَّةِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الْكَعْبَةُ السَّمَاوِيَّةُ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَرَأَى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَفَرَضَ الله عَلَيْهِ هُنَالِكَ الصَّلَوَاتِ خَمْسِينَ، ثُمَّ خَفَّفَهَا إِلَى خَمْسٍ رَحْمَةً مِنْهُ وَلُطْفًا بِعِبَادِهِ، وَفِي هَذَا اعْتِنَاءٌ عَظِيمٌ بِشَرَفِ الصَّلَاةِ وَعَظَمَتِهَا، ثُمَّ هَبَطَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهَبَطَ مَعَهُ الْأَنْبِيَاءُ فَصَلَّى بِهِمْ فِيهِ لَمَّا حَانَتِ الصَّلَاةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا الصبح يومئذٍ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَمَّهُمْ فِي السَّمَاءِ، وَالَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ ببيت الْمَقْدِسِ وَلَكِنْ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ دُخُولِهِ إِلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا مَرَّ بِهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْهُمْ جِبْرِيلَ وَاحِدًا وَاحِدًا وَهُوَ يُخْبِرُهُ بِهِمْ، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ، لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا مَطْلُوبًا إِلَى الْجَنَابِ الْعُلْوِيِّ لِيَفْرِضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ مَا يَشَاءُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ لَمَّا فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوته من النبيين، ثُمَّ أَظْهَرَ شَرَفَهَ وَفَضْلَهُ عَلَيْهِمْ بِتَقْدِيمِهِ فِي الْإِمَامَةِ، وَذَلِكَ عَنْ إِشَارَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَرَكِبَ الْبُرَاقَ وَعَادَ إِلَى مَكَّةَ بِغَلَسٍ والله سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ كَانَ الْإِسْرَاءُ ببدنه عليه السلام وروحه أم بِرُوحِهِ فَقَطْ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ، فَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ يَقَظَةً لَا مناما، ولا ينكرون أن رسول الله ﷺ رأى قبل ذلك مناماً ثم رآه بعد ذلك يقظه لأنه كان عليه السلام لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصبح، والدليل على هذا قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾. فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، فلو كَانَ مَنَامًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَبِيرُ شَيْءٍ وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعْظَمًا، وَلَمَا بَادَرَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ إلى تكذيبه، ولما ارتدت جماعة مما كَانَ قَدْ أَسْلَمَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَبْدَ عِبَارَةٌ عن مجموع الروح والجسد وقد قال: ﴿أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾. وقال تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ﴾ قال ابن عباس: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةُ أسري به، والشجرة الملعونة هي شجرة الزقزم (رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما). وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾، وَالْبَصَرُ مِنْ آلَاتِ الذَّاتِ لَا الرُّوحِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ حُمِلَ عَلَى الْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ بَيْضَاءُ بَرَّاقَةٌ لَهَا لَمَعَانٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا لِلْبَدَنِ لَا لِلرُّوحِ لِأَنَّهَا