وصّى، وَلِهَذَا قَرَنَ بِعِبَادَتِهِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَقَالَ: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ أي وأمر بالوالدين إحساناً، كقوله فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾ أَيْ لَا تسمعهما قولاً سيئاً حتى ولا التأفف الذي هُوَ أدنى مراتب القول السيء، ﴿وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾ أَيْ وَلَا يَصْدُرْ مِنْكَ إِلَيْهِمَا فعل قبيح، كما قال عطاء: ﴿وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾ أي لا تنفض يدك عليهما، وَلَمَّا نَهَاهُ عَنِ الْقَوْلِ الْقَبِيحِ وَالْفِعْلِ الْقَبِيحِ، أَمَرَهُ بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْفِعْلِ الْحَسَنِ، فَقَالَ: ﴿وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾ أَيْ لَيِّنًا طَيِّبًا حَسَنًا بِتَأَدُّبٍ وَتَوْقِيرٍ وَتَعْظِيمٍ، ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ أَيْ تَوَاضَعَ لَهُمَا بِفِعْلِكَ، ﴿وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾ أي في كبرهما وعند وفاتهما. وَقَدْ جَاءَ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، (مِنْهَا) الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أنَس وغيره أن النبي صلَّى الله عليه وسلم صعد المنبر ثم قال: «آمين آمين آمين»، قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَامَ أَمَّنْتَ؟ قَالَ: "أَتَانِي جبريل، فقال: يا محمد رَغِمَ أَنْفُ رِجْلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عليك، قُلْ آمِينَ، فَقُلْتُ آمِينَ، ثُمَّ قَالَ رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ ثُمَّ خرج فلم يُغْفَرْ لَهُ، قُلْ آمِينَ، فَقُلْتُ آمِينَ، ثُمَّ قال رغم أنف رجل أدرك والديه أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ، قُلْ آمِينَ، فقلت آمين" (أخرجه الترمذي الحاكم عن أبي هريرة). (حديث آخر): روى الإمام أحمد عن أبي مَالِكٍ الْقُشَيْرِيِّ قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا ثُمَّ دَخَلَ النَّارَ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ» (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ شعبة وفيه زيادات أخر). (حديث آخر): روى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أنف ثم رغم أنف: رجل أدرك أحد أبويه أو كلاهما عنده الكبر ولكم يدخل الجنة". (حديث آخر): عن مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيُّ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هل بقي مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ بَعْدَ مَوْتِهِمَا أَبَرُّهُمَا بِهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ خِصَالٌ أَرْبَعٌ: الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا رَحِمَ لَكَ إِلَّا مِنْ قبلهما، فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما" (رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة). (حديث آخر): عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ
جَاهِمَةَ السَّلَمِيِّ، أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتُ
الْغَزْوَ، وَجِئْتُكَ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَالَ: «فَهَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟» قَالَ: نعم، قال: «فالزمها فإن الجنة عند رجليها» (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه). (حديث آخر): قال الحافظ البزار في مسنده عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا كَانَ فِي الطَّوَافِ حَامِلًا أُمَّهُ يَطُوفُ بِهَا، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَدَّيْتُ حَقَّهَا؟ قَالَ: «لَا، وَلَا بِزَفْرَةٍ واحدة» (قال ابن كثير: في سنده الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف).
- ٢٥ - رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الرَّجُلُ تَكُونُ مِنْهُ الْبَادِرَةُ إِلَى أَبَوَيْهِ وَفِي نِيَّتِهِ وَقَلْبِهِ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُرِيدُ إِلَّا الْخَيْرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ﴾، وقوله: ﴿فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً﴾ -[٣٧٤]- قَالَ قَتَادَةُ: لِلْمُطِيعِينَ أهل الصلاة، وعن ابن عباس: المطيعين المحسنين. وعن ابن المسيب: الذين يصيبون الذنب ثم يتوبون، وعن عطاء بن يسار، وسعيد بن جبير، ومجاهد: هم الراجعون إلى الخير. وعن عبيد بن عمير قال: كنا نعد الأوَّاب من يَقُولَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَصَبْتُ فِي مَجْلِسِي هَذَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأَوْلَى فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ هُوَ التَّائِبُ مِنَ الذنب، الرجّاع من الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، مِمَّا يَكْرَهُ اللَّهُ إِلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ الصَّوَابُ، لِأَنَّ الْأَوَّابَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَوْبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ، يُقَالُ: آبَ فُلَانٌ إِذَا رَجَعَ، قَالَ تعالى: ﴿إن إلينا إيابهم﴾. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَجَعَ مِنْ سَفَرٍ قَالَ: «آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ».


الصفحة التالية
Icon