الله ﷺ علم أن لا طَاقَةَ لَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ إِلَّا بِسُلْطَانٍ، فَسَأَلَ سُلْطَانًا نَصِيرًا لِكِتَابِ اللَّهِ، وَلِحُدُودِ اللَّهِ، وَلِفَرَائِضِ اللَّهِ، وَلِإِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ السُّلْطَانَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ، جَعَلَهُ بَيْنَ أَظْهُرِ عِبَادِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَغَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَأَكَلَ شَدِيدُهُمْ ضَعِيفَهُمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿سُلْطَاناً نَّصِيراً﴾ حُجَّةً بَيِّنَةً، واختار ابن جرير الأول، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ الْحَقِّ مِنْ قَهْرٍ، لمن عاداه ناوأه، ولهذا يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات - إلى قوله - وَأَنزَلْنَا الحديد﴾ الآية. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ». أَيْ لَيَمْنَعُ بِالسُّلْطَانِ عَنِ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَالْآثَامِ مَا لَا يَمْتَنِعُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ الْأَكِيدِ وَالتَّهْدِيدِ الشَّدِيدِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَقُلْ جَآءَ الحق وزهق الباطل﴾ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَلَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ، وَهُوَ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ وَزَهَقَ بَاطِلُهُمْ: أَيِ اضْمَحَلَّ وَهَلَكَ، فَإِنَّ الْبَاطِلَ لَا ثَبَاتَ لَهُ مَعَ الْحَقِّ وَلَا بَقَاءَ ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ وَحَوْلَ البيت ستون وثلثمائة نُصُبٍ، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: «جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا، جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ» (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي). وقال الحافظ أبو يعلى، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة وحول البيت ثلثمائة وستون صنماً تُعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأكبت على وجوهها، وَقَالَ: «جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زهوقاً».
- ٨٢ - وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّهُ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ يُذْهِبُ مَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ أَمْرَاضٍ مِنْ شَكٍّ وَنِفَاقٍ، وشرك وزيع وَمَيْلٍ، فَالْقُرْآنُ يَشْفِي مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَهُوَ أَيْضًا رَحْمَةٌ، يَحْصُلُ فِيهَا الْإِيمَانُ وَالْحِكْمَةُ وَطَلَبُ الْخَيْرِ وَالرَّغْبَةُ فِيهِ، وَلَيْسَ هَذَا إِلَّا لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ، وَاتَّبَعَهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ شِفَاءً فِي حَقِّهِ وَرَحْمَةً، وَأَمَّا الْكَافِرُ الظَّالِمُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ؛ فَلَا يَزِيدُهُ سَمَاعُهُ الْقُرْآنَ إِلَّا بُعْدًا وَكُفْرًا، وَالْآفَةُ مِنَ الْكَافِرِ لَا مِنَ الْقُرْآنِ، كقوله تَعَالَى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾. وقال تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾، قال قتادة: إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ورعاه ﴿وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً﴾: أي لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا يَحْفَظُهُ وَلَا يَعِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ هَذَا الْقُرْآنَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ.
- ٨٣ - وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر كان يؤوسا
- ٨٤ - قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ نَقْصِ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ الله تعالى في حالتي السراء والضراء، فإنه إِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِمَالٍ وَعَافِيَةٍ وَفَتْحٍ وَرِزْقٍ وَنَصْرٍ، وَنَالَ مَا يُرِيدُ، أَعْرَضَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، وَنَأَى بِجَانِبِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ:


الصفحة التالية
Icon