شَدِيدًا عُقُوبَةً عَاجِلَةً فِي الدُّنْيَا، وَآجِلَةً فِي الأخرى، ﴿من لدنه﴾ أي من عند الله، ﴿وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، الَّذِينَ صَدَّقُوا إِيمَانَهُمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ ﴿أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً﴾ أَيْ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ جَمِيلَةً، ﴿مَّاكِثِينَ فِيهِ﴾ فِي ثَوَابِهِمْ عِندِ اللَّهِ، وَهُوَ الْجَنَّةُ، خَالِدِينَ فِيهِ ﴿أَبَداً﴾ دَائِمًا، لَا زَوَالَ لَهُ وَلَا انقضاء، وقوله: ﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً﴾ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، فِي قَوْلِهِمْ نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِّنْ عِلْمٍ﴾، أَيْ بِهَذَا الْقَوْلِ الذي افتروه وائتفكوه، ﴿ولا لآبائهم﴾ أي لأسلافهم، ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً﴾ كبرت كلمتهم هذه، وفي هَذَا تَبْشِيعٌ لِمَقَالَتِهِمْ وَاسْتِعْظَامٌ لِإِفْكِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ أَيْ لَيْسَ لها مستند سوى قولهم ولا دليل عَلَيْهَا إِلَّا
كَذِبُهُمْ وَافْتِرَاؤُهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً﴾.
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إسحاق في سبب نزول هذه السورة الكريمة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ (النَّضْرَ بن الحارث) و (عتبة بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ) إِلَى أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْمَدِينَةِ: ، فَقَالُوا لَهُمْ: سَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَصِفُوا لَهُمْ صِفَتَهُ وَأَخْبِرُوهُمْ بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمْ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ، فخرجا حتى أتيا الْمَدِينَةَ، فَسَأَلُوا أَحْبَارَ يَهُودَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصَفُوا لَهُمْ أَمْرَهُ وَبَعْضَ قَوْلِهِ وَقَالَا: إِنَّكُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَقَدْ جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال، فقالوا: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بهن فهو نبي مرسل، وإلاّ فرجل متقول فتروا فِيهِ رَأْيَكُمْ، سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجِيبٌ، وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ، بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا مَا كَانَ نَبَؤُهُ؟ وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ مَا هُوَ؟ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِذَلِكَ فَهُوَ نَبِيٌّ فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ لم يخبركم فإنه رجل مقتول فَاصْنَعُوا فِي أَمْرِهِ مَا بَدَا لَكُمْ، فَأَقْبَلَ النَّضْرُ وَعُقْبَةُ حَتَّى قَدِمَا عَلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَمَرَنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ أُمُورٍ؛ فَأَخْبَرُوهُمْ بِهَا، فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يا محمد! لأخبرنا، فَسَأَلُوهُ عَمَّا أَمَرُوهُمْ بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُخْبِرُكُمْ غَدًا عما سَأَلْتُمْ عَنْهُ»، وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَ عشرة ليلة لا يحدث الله له فِي ذَلِكَ وَحْيًا، وَلَا يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى أَرْجَفَ أَهْلُ مَكَّةَ، وَقَالُوا: وَعَدَنَا محمد غداً واليوم خمس عشرة، قد أصحبنا فِيهَا لَا يُخْبِرُنَا بِشَيْءٍ عَمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ، وَحَتَّى أَحْزَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكْثُ الْوَحْيِ عَنْهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا يتكلم به أهل مكة. ثم جاءه جبرائيل عليه السلام من اللَّهِ عزَّ وجلَّ بِسُورَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فِيهَا مُعَاتَبَتُهُ إِيَّاهُ عَلَى حُزْنِهِ عَلَيْهِمْ، وَخَبَرُ مَا سألوه عنه من خبر الفتية والرجل والطواف، وقول الله عزَّ وجلَّ ﴿يسألونك عَنِ الروح؟ قُلِ الروح﴾ الآية.
- ٦ - فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا
- ٧ - إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلًا
- ٨ - وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً
يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِرَسُولِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه فِي حُزْنِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِتَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ وَبُعْدِهِمْ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عليهم حسرات﴾، وقال: ﴿وَلاَ تَحْزَنْ عليهم﴾، وَقَالَ: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾، بَاخِعٌ: أَيْ مَهْلِكٌ نَفْسَكَ بِحُزْنِكَ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قال: {فعلك بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ