مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ}، وَقَوْلُهُ: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً﴾ أَيْ إِنَّهُمْ لَمَّا عَايَنُوا جَهَنَّمَ حِينَ جِيءَ بِهَا تُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، فَإِذَا رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ تَحَقَّقُوا لَا مَحَالَةَ أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعْجِيلِ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ لَهُمْ، فَإِنَّ تَوَقُّعَ الْعَذَابِ والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز، وقوله: ﴿وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً﴾ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ طَرِيقٌ يَعْدِلُ بِهِمْ عَنْهَا، وَلَا بُدَّ لَهُمْ منها. قال ابن جرير، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْكَافِرَ ليرى جهنم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعمائة سنة».
- ٥٤ - وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا
ويقول تَعَالَى: وَلَقَدْ بَيَّنَّا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ وَوَضَّحْنَا لَهُمُ الْأُمُورَ وَفَصَّلْنَاهَا، كَيْلَا يَضِلُّوا عَنِ الْحَقِّ، وَيَخْرُجُوا عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى، وَمَعَ هَذَا البيان وهذا الفرقان فإن الْإِنْسَانُ كَثِيرُ الْمُجَادَلَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ وَالْمُعَارَضَةِ لِلْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، إِلَّا مَنْ هَدَى اللَّهُ وَبَصَّرَهُ لِطَرِيقِ النَّجَاةِ. قال الإمام أحمد،
عن عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً، فَقَالَ: «أَلَا تُصَلِّيَانِ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مولٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَيَقُولُ: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جدلا﴾ (أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد).
- ٥٥ - وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا
- ٥٦ - وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَمَرُّدِ الْكَفَرَةِ في قديم الزمان وحديثه، وتكذبيهم بِالْحَقِّ الْبَيِّنِ الظَّاهِرِ مَعَ مَا يُشَاهِدُونَ مِنَ الآيات وَالدَّلَالَاتِ الْوَاضِحَاتِ، وَأَنَّهُ مَا مَنَعَهُمْ مِنَ اتِّبَاعِ ذَلِكَ إِلَّا طَلَبُهُمْ أَنْ يُشَاهِدُوا الْعَذَابَ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ عَيَانًا كَمَا قَالَ أُولَئِكَ لِنَبِيِّهِمْ: ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾، وَآخَرُونَ قَالُوا: ﴿ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: ﴿اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أليم﴾ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: ﴿إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ﴾ مِنْ غِشْيَانِهِمْ بِالْعَذَابِ، وَأَخْذِهِمْ عَنْ آخِرِهِمْ ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً﴾ أَيْ يَرَوْنَهُ عَيَانًا مواجهة ومقابلة، ثم قال تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ أَيْ مبشرين من صدقهم وآمن بهم، ومنذرين لمن كَذَّبَهُمْ وَخَالَفَهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْكَفَّارِ بِأَنَّهُمْ ﴿يُجَادِلُونَ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ﴾ أَيْ لِيُضْعِفُوا بِهِ الْحَقَّ، الَّذِي جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَاصِلٍ لَهُمْ، ﴿وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً﴾ أَيْ اتَّخَذُوا الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ وَخَوَارِقَ الْعَادَاتِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا الرُّسُلُ، وَمَا أَنْذَرُوهُمْ وَخَوَّفُوهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، ﴿هُزُواً﴾: أَيْ سَخِرُوا مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَشَدُّ التَّكْذِيبِ.