﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ هَذَا سُؤَالٌ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِرَبِّهِ عزَّ وجلَّ، أَنْ يَشْرَحَ لَهُ صَدْرَهُ فِيمَا بَعَثَهُ بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَهُ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَخَطْبٍ جَسِيمٍ، بَعَثَهُ إِلَى أَعْظَمِ مَلِكٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِذْ ذَاكَ، وَأَجْبَرِهِمْ وَأَشَدِّهِمْ كفراً وأكثرهم جنوداً، وأبلغهم تمرداً، هَذَا وَقَدْ مَكَثَ مُوسَى فِي دَارِهِ مُدَّةً وَلِيدًا عِنْدَهُمْ فِي حَجْرِ فِرْعَوْنَ عَلَى فِرَاشِهِ، ثُمَّ قَتَلَ مِنْهُمْ نَفْسًا فَخَافَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ فَهَرَبَ مِنْهُمْ، هَذِهِ الْمُدَّةَ بِكَمَالِهَا، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا بَعَثَهُ رَبُّهُ عزَّ وجلَّ إِلَيْهِمْ نَذِيرًا يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ أَيْ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَنْتَ عَوْنِي وَنَصِيرِي وَعَضُدِي وَظَهِيرِي وَإِلَّا فَلَا طَاقَةَ لِي بِذَلِكَ ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي﴾. وَمَا سَأَلَ أَنْ يَزُولَ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ بِحَيْثُ يَزُولُ الْعَيُّ وَيَحْصُلُ لَهُمْ فَهْمُ مَا يُرِيدُ مِنْهُ، وَهُوَ قَدْرُ الْحَاجَةِ، وَلَوْ سَأَلَ الْجَمِيعَ لَزَالَ وَلَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَسْأَلُونَ إِلَّا بحسب الحاجة، ولهذا بقيت. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَ ﴿أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ﴾ أَيْ يُفْصِحُ بِالْكَلَامِ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي﴾ قَالَ: حُلَّ عُقْدَةً وَاحِدَةً،
وَلَوْ سَأَلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أُعْطِيَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَكَا مُوسَى إِلَى رَبِّهِ مَا يتخوف من آل فرعون في القتيل، وعقدة لِسَانِهِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي لِسَانِهِ عُقْدَةٌ تَمْنَعُهُ من كثير الْكَلَامِ، وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعِينَهُ بِأَخِيهِ هَارُونَ، يَكُونُ لَهُ رِدْءًا وَيَتَكَلَّمُ عَنْهُ بِكَثِيرٍ مِمَّا يُفْصِحُ بِهِ لِسَانُهُ، فَآتَاهُ سُؤْلَهُ، فَحَلَّ عُقْدَةً من لسانه.
وقوله تعالى: ﴿وَاجْعَلْ لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي﴾، وهذا أيضاً سؤال من موسى عليه السلام فِي أَمْرٍ خَارِجِيٍّ عَنْهُ، وَهُوَ مُسَاعَدَةُ أَخِيهِ هارون له، قال ابن عباس: نبئ هارون ساعتئذ وحين نبئ موسى عليهما السلام. روي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا خَرَجَتْ فِيمَا كَانَتْ تَعْتَمِرُ، فنَزَلَتْ بِبَعْضِ الْأَعْرَابِ فَسَمِعَتْ رَجُلًا يَقُولُ: أَيُّ أَخٍ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَنْفَعَ لِأَخِيهِ؟ قَالُوا: لا ندري، قال أنا والله أَدْرِي! قَالَتْ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي فِي حَلِفِهِ لَا يَسْتَثْنِي، إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَيَّ أَخٍ كَانَ في الدينا أَنْفَعَ لِأَخِيهِ، قَالَ: (مُوسَى) حِينَ سَأَلَ لِأَخِيهِ النبوة، فقلت: صدق والله (أخرجه ابن أبي حاتم). وَقَوْلُهُ: ﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: ظَهْرِي، ﴿وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ أَيْ فِي مُشَاوَرَتِي، ﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا حَتَّى يذكر الله قائماً ومضظجعاً، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً﴾ أَيْ فِي اصطفائك لنا وإعطائك إيانا النبوة وبعثك لَنَا إِلَى عَدُوِّكَ فِرْعَوْنَ، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى ذلك.
- ٣٦ - قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى
- ٣٧ - وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى
- ٣٨ - إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى
- ٣٩ - أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي
- ٤٠ - إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا
هَذِهِ إِجَابَةٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِيمَا سَأَلَ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَذْكِيرٌ لَهُ بِنِعَمِهِ السَّالِفَةِ عَلَيْهِ، فِيمَا


الصفحة التالية
Icon