وتتحرك فلا يحصل لهم قرار عليها لِأَنَّهَا غَامِرَةٌ فِي الْمَاءِ إِلَّا مِقْدَارَ الرُّبْعِ، فَإِنَّهُ بَادٍ لِلْهَوَاءِ وَالشَّمْسِ لِيُشَاهِدَ أَهْلُهَا السَّمَاءَ وَمَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ وَالْحِكَمِ وَالدَّلَالَاتِ، ولهذا قال: ﴿أَن تَمِيدَ بِهِمْ﴾: وَقَوْلُهُ ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً﴾ أَيْ ثَغْرًا فِي الْجِبَالِ يَسْلُكُونَ فِيهَا طُرُقًا، من قطر إلى قطر ومن إقليم إِلَى إِقْلِيمٍ، كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي الْأَرْضِ يَكُونُ الْجَبَلُ حَائِلًا بَيْنَ هَذِهِ الْبِلَادِ وَهَذِهِ الْبِلَادِ، فَيَجْعَلُ اللَّهُ فِيهِ فَجْوَةً ثَغْرَةً لِيَسْلُكَ الناس فيها من ههنا إلى ههنا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾، وَقَوْلُهُ ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾: أَيْ عَلَى الْأَرْضِ وَهِيَ كَالْقُبَّةِ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾، وقال: ﴿أفلم ينظرون إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فروج﴾، وَالْبِنَاءُ هُوَ نَصْبُ الْقُبَّةِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ
الْإِسْلَامُ على خمس»
أي خمسة دَعَائِمَ وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْخِيَامِ كما تَعْهَدُهُ الْعَرَبُ، ﴿مَّحْفُوظاً﴾ أَيْ عَالِيًا مَحْرُوسًا أَنْ ينال، وقال مجاهد مرفوعاً، وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ كَقَوْلِهِ: ﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ في السموات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ أَيْ لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا من الاتساع العظيم والاتفاع الْبَاهِرِ، وَمَا زُيِّنَتْ بِهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ والسيارات في ليلها ونهارها، مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ الَّتِي تَقْطَعُ الْفَلَكَ بِكَمَالِهِ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَتَسِيرُ غَايَةً لَا يَعْلَمُ قدرها إلاّ الله، الذي قدّرها وسخّرها وسيّرها، ثُمَّ قَالَ مُنَبِّهًا عَلَى بَعْضِ آيَاتِهِ ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ أَيْ هَذَا فِي ظَلَامِهِ وَسُكُونِهِ، وَهَذَا بِضِيَائِهِ وَأُنْسِهِ، يَطُولُ هَذَا تَارَةً ثُمَّ يَقْصُرُ أُخْرَى وَعَكْسُهُ الْآخَرُ، ﴿وَالشَّمْسَ والقمر﴾ هذه لها نور يخصها وحركة وسير خاص، وهذا بنور آخَرَ وَفَلَكٍ آخَرَ وَسَيْرٍ آخَرَ وَتَقْدِيرٍ آخَرَ، ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ أَيْ يَدُورُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَدُورُونَ كَمَا يدرو المغزل في الفلكة، قَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَا يَدُورُ الْمِغْزَلُ إِلَّا بِالْفَلْكَةِ وَلَا الْفَلْكَةُ إِلَّا بِالْمِغْزَلِ، كَذَلِكَ النُّجُومُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا يَدُورُونَ إِلَّا بِهِ وَلَا يَدُورُ إِلَّا بِهِنَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ العليم﴾.
- ٣٤ - وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ
- ٣٥ - كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَمَآ جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ أَيْ يا محمد ﴿الخلد﴾ أي في الدنيا (أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: نعي إلى النبي ﷺ نفسه، فقال: «يا رب، فمن لأمتي»، فنزلت: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ﴾ الآية) بَلْ ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿أَفَإِنْ مِّتَّ﴾ أَيْ يَا مُحَمَّدُ ﴿فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾؟ أَيْ يُؤَمِّلُونَ أَنْ يَعِيشُوا بَعْدَكَ! لَا يكون هذا بل كلٍّ إلى الفناء، ولهذا قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَنْشَدَ وَاسْتَشْهَدَ بِهَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ:
تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ * فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ
فَقُلْ لِلَّذِي يَبْغِي خِلَافَ الَّذِي مَضَى * تهيأْ لِأُخْرَى مِثْلِهَا فكأن قد
وقوله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ أَيْ نَخْتَبِرُكُمْ بِالْمَصَائِبِ تارة، وبالنعم أخرى، فننظر من يشكر


الصفحة التالية
Icon