إسحاق بن راهوية إلى أنها لا تُوَرَّثُ وَلَا تُؤَجَّرُ، وَهُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنَ السلف، واحتج إسحاق بن راهوية بما روي عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا تُدْعَى رِبَاعُ مَكَّةَ إِلَّا السَّوَائِبَ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن (رواه ابن ماجه عن علقمة بن نضلة). وقال عبد الله بن عمرو: لَا يَحِلُّ بَيْعُ دَوْرِ مَكَّةَ وَلَا كِرَاؤُهَا، وكان عطاء يهنى عن الكراء في الحرم. وقال عمر بن الخطاب: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَتَّخِذُوا لِدَوْرِكُمْ أَبْوَابًا لينزل البادي حيث يشاء، وروى الدارقطني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا: "مِنْ أَكَلَ كِرَاءَ بُيُوتِ مَكَّةَ أَكَلَ نَارًا: ، وَتَوَسَّطَ الإمام أحمد فقال: تملك ولا تورث وَلَا تُؤَجَّرُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقوله تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ قال بعض المفسرين: الباء ههنا زائدة، كقوله: ﴿تَنبُتُ بالدهن﴾ أَيْ تُنْبِتُ الدُّهْنَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ﴾ تقديره إلحاداً. والأجود أنه ضمن الفعل ههنا بمعنى يَهُمُّ، وَلِهَذَا عَدَّاهُ بِالْبَاءِ فَقَالَ: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ﴾ أَيْ يَهُمُّ فِيهِ بِأَمْرٍ فَظِيعٍ مِنَ الْمَعَاصِي الْكِبَارِ، وَقَوْلُهُ: ﴿بِظُلْمٍ﴾ أَيْ عَامِدًا قَاصِدًا أَنَّهُ ظلم ليس بمتأول، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: بِظُلْمٍ بِشِرْكٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ يُعْبَدَ فِيهِ غَيْرُ اللَّهِ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِظُلْمٍ هُوَ أَنْ تَسْتَحِلَّ مِنَ الْحَرَمِ مَا حرم الله عليك من إساءة أَوْ قَتْلٍ فَتَظْلِمَ مَنْ لَا يَظْلِمُكَ وَتَقْتُلَ مَنْ لَا يَقْتُلُكَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ لَهُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِظُلْمٍ يعلم فِيهِ عَمَلًا سَيِّئًا، وَهَذَا مِنْ خُصُوصِيَّةِ الْحَرَمِ أَنَّهُ يُعَاقَبُ الْبَادِي فِيهِ الشَّرَّ إِذَا كَانَ عَازِمًا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُوقِعْهُ كَمَا قَالَ ابن مسعود: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ وهو بعدن أبين لأذاقه الله من العذاب الأليم (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفاً). وقال الثوري عن عبد الله بن مسعود قَالَ: مَا مِنْ رَجُلٍ يَهُمُّ بِسَيِّئَةٍ فَتُكْتَبُ عَلَيْهِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بِعَدَنِ أَبَيْنَ هَمَّ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا بِهَذَا الْبَيْتِ لَأَذَاقَهُ اللَّهُ من العذاب الأليم؛ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: شَتْمُ الْخَادِمِ ظُلْمٌ فما فوقه؛ وقال ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ﴾ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ مَعَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا مُهَاجِرٌ وَالْآخَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَافْتَخَرُوا فِي الْأَنْسَابِ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ فَقَتَلَ الْأَنْصَارِيَّ، ثم ارتد عن الإسلام، ثم هرب إِلَى مَكَّةَ، فَنَزَلَتْ فِيهِ: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ﴾ يَعْنِي مَنْ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ بِإِلْحَادٍ يَعْنِي بِمَيْلٍ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَهَذِهِ الْآثَارُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْإِلْحَادِ، وَلَكِنْ هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ فِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهَا؛ وَلِهَذَا لَمَّا هَمَّ أَصْحَابُ الْفِيلِ عَلَى تَخْرِيبِ الْبَيْتِ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴿طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ﴾ أَيْ دَمَّرَهُمْ وَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً وَنَكَالًا لِكُلِّ مَنْ أَرَادَهُ بِسُوءٍ، وَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «يَغْزُو هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ حَتَّى إِذَا كَانُوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم» وعن سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: أَتَى عبدُ اللَّهِ بن عمر عبدَ الله بن الزُّبَيْرِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْحِجْرِ فَقَالَ: يَا ابن الزُّبَيْرِ إِيَّاكَ وَالْإِلْحَادَ فِي الْحَرَمِ، فَإِنِّي أَشْهَدُ لَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَحِلُّهَا وَيَحِلُّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لو وُزِنَتْ ذُنُوبُهُ بِذُنُوبِ الثَّقَلَيْنِ لَوَزَنَتْهَا» قَالَ: فَانْظُرْ لا تكن هو (أخرجه الإمام أحمد).