يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فِي عَدَمِ تفهمهم للقرآن العظيم وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ خُصُّوا بِهَذَا الْكِتَابِ الَّذِي لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ عَلَى رَسُولٍ أكمل منه ولا أشرف، فَكَانَ اللَّائِقُ بِهَؤُلَاءِ أَنْ يُقَابِلُوا النِّعْمَةَ الَّتِي أسداها الله لهم بِقَبُولِهَا وَالْقِيَامِ بِشُكْرِهَا وَتَفَهُّمِهَا وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا آنَاءَ الليل وأطراف النهار، ثُمَّ قَالَ مُنْكِرًا عَلَى الْكَافِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ: ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ أي أنهم لَا يَعْرِفُونَ مُحَمَّدًا وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَصِيَانَتَهُ الَّتِي نشأ بها فيهم، وَلِهَذَا قَالَ (جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلنَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إن الله بعث فينا رَسُولًا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ، وَهَكَذَا قَالَ (الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) لِنَائِبِ كِسْرَى حِينَ بَارَزَهُمْ، وكذلك قال (أبو سفيان) لِمَلِكِ الرُّومِ هِرَقْلَ حِينَ سَأَلَهُ وَأَصْحَابَهُ عَنْ صِفَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَسَبِهِ وَصِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَكَانُوا بَعْدُ كَفَّارًا لَمْ يُسْلِمُوا، ومع هذا لم يمكنهم إِلَّا الصِّدْقُ فَاعْتَرَفُوا بِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ﴾ يَحْكِي قَوْلَ الْمُشْرِكِينَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ تقوَّل الْقُرْآنَ أي افتراه من عنده، وأن بِهِ جُنُونًا لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ، وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ لَا تُؤْمِنُ بِهِ، وَهُمْ يعلمون بطلان ما يقولون في القرآن، وَقَدْ تَحَدَّاهُمْ وَجَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْتُوا بمثله إن اسْتَطَاعُوا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَبَدَ الْآبِدِينَ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿بَلْ جَآءَهُمْ بالحق وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾، قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ رَجُلًا فَقَالَ: «أَسْلِمْ» فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّكَ لَتَدْعُونِي إِلَى أَمْرٍ أَنَا لَهُ كَارِهٌ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ كُنْتَ كَارِهًا». وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ» فَتَصَعَّدَهُ ذَلِكَ وَكَبُرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ كُنْتَ فِي طَرِيقٍ وَعِرٍ وَعِثٍ، فَلَقِيتَ رَجُلًا تَعْرِفُ وَجْهَهُ وَتَعْرِفُ نَسَبَهُ، فَدَعَاكَ إلى طريق واسع سهل أكنت تتبعه؟» قال: نعم، قال: «فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّكَ لَفِي أَوْعَرِ مِنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ لَوْ قَدْ كُنْتَ عَلَيْهِ، وإني لأدعوك لأسهل من ذلك لو دعيت إليه». وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾ قال مجاهد وَالسُّدِّيُّ: الْحَقُّ هُوَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَالْمُرَادُ لَوْ أَجَابَهُمُ اللَّهُ إِلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمْ من شرع الْهَوَى وَشَرَعَ الْأُمُورَ عَلَى وِفْقِ ذَلِكَ، لَفَسَدَتِ السموات والأرض ومن فيهن أي لفساد أهوائهم واختلافهم، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: ﴿لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق﴾ الآية.
فَفِي هَذَا كُلِّهِ تَبْيِينُ عَجْزِ الْعِبَادِ وَاخْتِلَافِ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْكَامِلُ فِي جميع صفاته وأقواله وأفعاله وتدبيره لخلقه تعالى وتقدس، ولهذا قال: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ﴾ أي الْقُرْآنَ ﴿فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً﴾ قَالَ الْحَسَنُ: أَجْرًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: جُعْلاً ﴿فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ﴾ أَيْ أَنْتَ لَا تَسْأَلُهُمْ أُجْرَةً وَلَا جَعْلًا وَلَا شَيْئًا عَلَى دَعْوَتِكَ إِيَّاهُمْ إِلَى الْهُدَى، بَلْ أَنْتَ فِي ذَلِكَ تَحْتَسِبُ عِنْدَ اللَّهِ جَزِيلَ ثَوَابِهِ، كَمَا قَالَ: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله﴾، وَقَالَ: ﴿قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين﴾، وقال: ﴿اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ﴾، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ مَلَكَانِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَالْآخِرُ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيْهِ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِهِ: اضْرِبْ مَثَل هَذَا وَمَثَلَ أُمَّتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ مثل هذا وَمَثَلَ أُمَّتِهِ كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفَرٍ انْتَهَوْا إِلَى رَأْسِ مَفَازَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مِنَ الزَّادِ مَا يَقْطَعُونَ بِهِ الْمَفَازَةَ وَلَا مَا يَرْجِعُونَ بِهِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمْ رَجُلٌ فِي حُلَّةٍ حبرة، فقال: أرأيتم إن أوردتكم رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا