أَنْ تَأْكُلَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَقَوْلُهُ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً﴾، قَالَ ابن عباس: وَذَلِكَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ وَالطَّعَامُ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ، فَكَفَّ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ، فأنزل الله: ﴿لَيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ - إلى
قوله - أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾، وكانوا أيضاً يتأنفون وَيَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ الطَّعَامَ وَحْدَهُ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَرَخَّصَ اللَّهُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً﴾، وقال قتادة: كان هَذَا الْحَيُّ مِنْ (بَنِي كِنَانَةَ) يَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّ مَخْزَاةً عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ فِي الجاهلية، حتى إن الرَّجُلُ لَيَسُوقُ الذُّودَ الْحُفَّلَ وَهُوَ جَائِعٌ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُؤَاكِلُهُ وَيُشَارِبُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً﴾ فَهَذِهِ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ وَمَعَ الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ الأكل مع الجماعة أبرك وأفضل، كما روي أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: إنا نأكل ولا نشبع، قال: «لعلكم تَأْكُلُونَ مُتَفَرِّقِينَ، اجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ الله يبارك لكم فيه» (أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه). وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «كُلُوا جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ مع الجماعة» (أخرجه ابن ماجه عن عمر مرفوعاً).
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ﴾ يعني فليسلم بعضكم على بعض، وقال جابر بن عبد الله إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ تَحِيَّةً من عند الله طيبة مبارمة، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَوَاجِبٌ إِذَا خَرَجْتُ ثُمَّ دَخَلْتُ أَنْ أُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: لا، ولا أوثر وُجُوبَهُ عَنْ أَحَدٍ، وَلَكِنْ هُوَ أَحَبُّ إليَّ، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُؤْمَرُ بِذَلِكَ، وحُدِّثْنَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ ترد عليه، وقال أنس بن مالك: أَوْصَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ خِصَالٍ، قَالَ: «يَا أَنَسُ أَسْبِغِ الْوُضُوءَ يُزَدْ فِي عُمْرِكَ، وَسَلِّمْ عَلَى مَنْ لَقِيَكَ مِنْ أُمَّتِي تَكْثُرْ حَسَنَاتُكَ، وَإِذَا دَخَلْتَ - يَعْنِي بَيْتَكَ - فسلم على أهلك يَكْثُرْ خَيْرُ بَيْتِكَ، وَصَلِّ صَلَاةَ الضُّحَى فَإِنَّهَا صَلَاةُ الأوَّابين قَبْلَكَ، يَا أَنَسُ ارْحَمِ الصَّغِيرَ، وَوُقِّرِ الْكَبِيرَ تَكُنْ مِنْ رُفَقَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (أخرجه الحافظ البزار عن أنس مرفوعاً). وَقَوْلُهُ: ﴿تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا أَخَذْتُ التَّشَهُّدَ إِلَّا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ فَالتَّشَهُّدُ فِي الصَّلَاةِ: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لله، وَقَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ لما ذكر تعالى ما في هذه السور الْكَرِيمَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُحْكَمَةِ وَالشَّرَائِعِ الْمُتْقَنَةِ الْمُبْرَمَةِ؛ نبه تعالى عباده عَلَى أَنَّهُ يُبَيِّنُ لِعِبَادِهِ الْآيَاتِ بَيَانًا شَافِيًا ليتدبروها ويتعقلوها لعلهم يعقلون.
- ٦٢ - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
-[٦٢١]-
وَهَذَا أَيْضًا أَدَبٌ أرشده الله عباده المؤمنين، فَكَمَا أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ الدُّخُولِ، كَذَلِكَ أَمْرَهُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ الِانْصِرَافِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا فِي أَمْرٍ جَامِعٍ مَعَ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، مِنْ صَلَاةِ جُمُعَةٍ أَوْ عِيدٍ أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك، أمرهم الله تعالى أن لا يتفرقوا عَنْهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ وَمُشَاوَرَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ إِذَا اسْتَأْذَنَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ أَنْ يأذن له إن شاء الله، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ﴾ الآية، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة» (أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن).