وَاسْتِرْشَادًا، بَلْ تَكْذِيبُهُمْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُمْ عَلَى قَوْلِ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ أي أرصدنا ﴿لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً﴾ أَيْ عَذَابًا أَلِيمًا حاراً لا يطاق في نار جَهَنَّمَ، وَقَوْلُهُ: ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ﴾ أَيْ جَهَنَّمُ ﴿مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ يَعْنِي فِي مَقَامِ الْمَحْشَرِ، قَالَ السُّدِّيُّ: مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةِ عَامٍ ﴿سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾ أَيْ حَنَقًا عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ﴾ أَيْ يَكَادُ يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ مِنْ شدة غيظها على من كفر بالله. عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ الله بن مسعود ومعنا الربيع بن خيثم، فَمَرُّوا عَلَى حَدَّادٍ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَنْظُرُ إلى حديدة في النار، وينظر الربيع بن خيثم إليها، فتمايل الربيع لِيَسْقُطَ، فَمَرَّ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى أَتُونٍ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، فِلَمَّا رَآهُ عَبْدُ اللَّهِ وَالنَّارُ تَلْتَهِبُ فِي جَوْفِهِ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً﴾ فصعق، يعني الربيع، وحملوه إلى أهل بيته، فرابطة عَبْدُ اللَّهِ إِلَى الظُّهْرِ، فَلَمْ يَفِقْ رَضِيَ الله عنه. وعن مجاهد بإسناده إلى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُجَرُّ إِلَى النَّارِ فَتَنْزَوِي وَتَنْقَبِضُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَيَقُولُ لَهَا الرَّحْمَنُ: مَا لَكِ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ يَسْتَجِيرُ مِنِّي، فَيَقُولُ أَرْسِلُوا عَبْدِي؛ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُجَرُّ إِلَى النَّارِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا كَانَ هَذَا الظَّنُّ بِكَ، فَيَقُولُ: فَمَا كَانَ ظَنُّكَ؟ فَيَقُولُ: أَنْ تَسَعَنِي رَحْمَتُكَ، فَيَقُولُ: أَرْسِلُوا عَبْدِي؛ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُجْرُّ إِلَى النَّارِ فَتَشْهَقُ إِلَيْهِ النار شهقة الْبَغْلَةِ إِلَى الشَّعِيرِ، وَتَزْفَرُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى أحد إلا خاف (ذكره ابن جرير رحمه الله في تفسيره وقال ابن كثير: إسناده صحيح). وقال عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً﴾ قال: إن جهنم لتزفر زَفْرَةً لَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مرسل إلاّ خرَّ لوجهه، ترتعد فرائضه، حَتَّى إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَجْثُو عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيَقُولَ: رَبِّ لَا أَسْأَلُكَ الْيَوْمَ إِلَّا نفسي (أخرجه عبد الرزاق عن مجاهد عن عبيد بن عمير)، وقوله: ﴿وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ﴾ قَالَ قتادة: مِثْلَ الزُّجِّ فِي الرُّمْحِ أَيْ مِنْ ضِيقِهِ، وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ﴾ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ لَيُسْتَكْرَهُونَ فِي النَّارِ كَمَا يُسْتَكْرَهُ الْوَتِدُ فِي الْحَائِطِ». وقوله: ﴿مُّقَرَّنِينَ﴾ يَعْنِي مُكَتَّفِينَ ﴿دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً﴾ أَيْ بِالْوَيْلِ وَالْحَسْرَةِ وَالْخَيْبَةِ، ﴿لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً﴾ الآية. روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى حُلَّةً مِنَ النَّارِ إِبْلِيسُ، فَيَضَعُهَا عَلَى حاجبيه ويسحبها من خلقه، وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ يُنَادِي: يَا ثُبُورَاهُ، وَيُنَادُونَ: يَا ثُبُورَهُمْ، حَتَّى يَقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَيَقُولُ: يَا ثُبُورَاهُ، وَيَقُولُونَ: يَا ثُبُورَهُمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ: ﴿لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوَا ثُبُوراً كَثِيراً﴾. عن ابن عباس: أَيْ لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ وَيْلًا واحِداً وَادْعُوَا وَيْلًا كَثِيرًا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الثُّبُورُ الْهَلَاكُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الثُّبُورَ يَجْمَعُ الْهَلَاكَ وَالْوَيْلَ وَالْخَسَارَ وَالدَّمَارَ، كما قال موسى لفرعون: ﴿وإني لأظنك يا فرعون مَثْبُوراً﴾ أي هالكاً.
- ١٥ - قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا
- ١٦ - لَهُمْ فيها ما يشاؤون خالدين كَانَ على رَبِّكَ وعدا مسؤولا
يَقُولُ تَعَالَى: يَا مُحَمَّدُ هَذَا الَّذِي وَصَفْنَاهُ لك من حال الْأَشْقِيَاءِ، الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ، فتلقاهم بوجه عبوس وتغيظ وَزَفِيرٍ، وَيُلْقَونَ فِي أَمَاكِنِهَا الضَّيِّقَةِ مُقَرَّنِينَ، لَا يستطيعون حراكاً ولا استنصاراً ولا فكاكاً