عِكْرِمَةُ: يَعْنِي الَّذِينَ يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وكذا، وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يوماً عَلَى أَثَرِ سَمَاءٍ أَصَابَتْهُمْ مِنَ اللَّيْلِ: "أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَاكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَاكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ".
- ٥١ - وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا
- ٥٢ - فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا
- ٥٣ - وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً
- ٥٤ - وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً﴾ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَلَكِنَّا خَصَصْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ بِالْبِعْثَةِ إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ الأرض، وأمرناك أن تبلغهم هذا القرآن ﴿لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾، ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إليكم جميعا﴾، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ»، وَفِيهِمَا «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلى الناس عامة»، ولهذا قال تعالى: ﴿فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ﴾ يَعْنِي بِالْقُرْآنِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ﴿جِهَاداً كَبيراً﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ الآية، وقوله تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ أَيْ خَلَقَ الْمَاءَيْنِ الْحُلْوَ والملح، فالحلو كالأنهار والعيون والآبار. قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهَذَا المعنى لَا شَكَّ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ بَحْرٌ سَاكِنٌ وَهُوَ عَذْبٌ فُرَاتٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى إِنَّمَا أَخْبَرَ بِالْوَاقِعِ لِيُنَبِّهَ الْعِبَادَ عَلَى نِعَمِهِ عليهم ليشكروه، فالبحر العذب فرقه الله تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهاراً أو عيوناً فِي كُلِّ أَرْضٍ، بِحَسَبِ حَاجَتِهِمْ وَكِفَايَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وأراضيهم، وقوله تعالى: ﴿وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ أَيْ مَالِحٌ، مرٌّ، زُعاق لَا يُسْتَسَاغُ، وَذَلِكَ كَالْبِحَارِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْمَشَارِقِ والمغارب، البحر المحيط وَبَحْرِ فَارِسَ وَبَحْرِ الصِّينِ وَالْهِنْدِ وَبَحْرِ الرُّومِ وبحر الخزر، وما شاكلها وما شابهها مِنَ الْبِحَارِ السَّاكِنَةِ الَّتِي لَا تَجْرِي، وَلَكِنْ تموج وتضطرب وتلتطم فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ وَشِدَّةِ الرِّيَاحِ، وَمِنْهَا مَا فِيهِ مَدٌّ وَجَزْرٌ، فَفِي أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ يَحْصُلُ مِنْهَا مَدٌّ وَفَيْضٌ، فَإِذَا شَرَعَ الشَّهْرُ فِي النُّقْصَانِ جَزَرَتْ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى غَايَتِهَا الأولى، فأجرى الله سبحانه وتعالى - وهو ذو الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ - الْعَادَةَ بِذَلِكَ؛ فَكُلُّ هَذِهِ الْبِحَارِ الساكنة خلقها الله سبحانه وتعالى مالحة، لِئَلَّا يَحْصُلَ بِسَبَبِهَا نَتَنُ الْهَوَاءِ، فَيَفْسَدُ الْوُجُودُ بِذَلِكَ، وَلِئَلَّا تَجْوَى الْأَرْضُ بِمَا يَمُوتُ فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانِ، وَلَمَّا كَانَ مَاؤُهَا مِلْحًا كَانَ هَوَاؤُهَا صَحِيحًا وَمَيْتَتُهَا طَيِّبَةً؛ وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ: أَنَتَوَضَّأُ بِهِ؟ فَقَالَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» (رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ). وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً﴾ أَيْ بَيْنَ الْعَذْبِ وَالْمَالِحِ ﴿بَرْزَخاً﴾ أَيْ حَاجِزًا وَهُوَ الْيَبَسُ مِنَ الأرض ﴿وَحِجْراً مَّحْجُوراً﴾ أي مانعاً من أن يصل أحدهما إلى الآخر، كقوله تعالى: ﴿مَرَجَ البحرين يلتقان بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يبغيان﴾، وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾، وقوله تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً﴾ الآية، أَيْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ ضَعِيفَةٍ