على عباده المصطفين الأخيار، وقد روى أبو بكر البزار عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وقوله تعالى: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾؟ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى. ثُمَّ شَرَعَ تَعَالَى يُبَيِّنُ أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالتَّدْبِيرِ دُونَ غيره، فقال تعالى: ﴿أَمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات﴾ أي خلق تلك السماوات في ارتفاعها وَصَفَائِهَا، وَمَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَةِ، والنجوم الزاهرة، والأفلاك الدائرة، وخلق الأرض وما فيها من الجبال والأطواد والسهول والأوعار، والفيافي والقفار، والزروع والأشجار، والثمار والبحار، وَالْحَيَوَانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْنَافِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ وَغَيْرِ ذلك، وقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ مَآءً﴾ أَيْ جَعَلَهُ رِزْقًا لِلْعِبَادِ ﴿فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ﴾ أَيْ بَسَاتِينَ ﴿ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ أَيْ مَنْظَرٍ حَسَنٍ وَشَكْلٍ بَهِيٍّ ﴿مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا﴾ أَيْ لم تكونوا تقدرون على إنبات أشجارها، وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، كَمَا يعترف به المشركون ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله﴾ ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله﴾ أَيْ هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ الْفَاعِلُ لِجَمِيعِ ذَلِكَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ هُمْ يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ مِمَّا يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ ولا يرزق، ولهذا قال تعالى: ﴿أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ؟﴾ أَيْ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ يُعْبَدُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ وَلِكُلِّ ذِي لُبٍّ مما يعترفون بِهِ أَيْضًا أَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ﴾ فَعَلَ هَذَا؟ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْجَوَابِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَيْسَ ثَمّ أَحَدٌ فَعَلَ هَذَا مَعَهُ بَلْ هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِهِ فَيُقَالُ: فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَهُوَ المستقل المتفرد بالخلق والرزق والتدبير؟ كما قال تعالى: ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يخلق﴾ الآية، وقوله تعالى ههنا: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ﴾ ﴿أَمَّنْ﴾ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا تَقْدِيرُهُ أَمَّنْ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا؟ هَذَا مَعْنَى السِّيَاقِ وَإِنْ لم يذكر الآخر، ثم قال: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ أَيْ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ عدلاً ونظيراً، وهكذا قال تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة ويرجو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ أَيْ أَمَّنْ هُوَ هَكَذَا كَمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ؟ ولهذا قال تَعَالَى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إنما يتذكر أولو الألباب﴾.
- ٦١ - أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
يقول تعالى: ﴿أم من جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً﴾ أَيْ قَارَّةً سَاكِنَةً ثَابِتَةً لَا تَمِيدُ وَلَا تَتَحَرَّكُ بِأَهْلِهَا وَلَا تَرْجُفُ بِهِمْ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا طَابَ عَلَيْهَا الْعَيْشُ وَالْحَيَاةُ، بَلْ جَعَلَهَا مِنْ فَضْلِهِ ورحمته مهاداً، ثَابِتَةً لَا تَتَزَلْزَلُ وَلَا تَتَحَرَّكُ، كَمَا قَالَ تعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بناء﴾، ﴿وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً﴾ أَيْ جَعَلَ فِيهَا الْأَنْهَارَ العذبة الطيبة، شقها فِي خِلَالِهَا وَصَرَّفَهَا فِيهَا مَا بَيْنَ أَنْهَارٍ كِبَارٍ وَصِغَارٍ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَسَيَّرَهَا شَرْقًا وَغَرْبًا وَجَنُوبًا وَشَمَالًا، بِحَسَبِ مَصَالِحِ عِبَادِهِ فِي أَقَالِيمِهِمْ وأقطاهرم، حيث ذرأهم في أرجاء الأرض، وسير لَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ بِحَسَبِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ ﴿وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ﴾ أَيْ جِبَالًا شَامِخَةً تُرْسِي الْأَرْضَ وَتُثَبِّتُهَا لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ ﴿وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً﴾ أَيْ جَعَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الْعَذْبَةِ وَالْمَالِحَةِ ﴿حَاجِزاً﴾ أَيْ مَانِعًا يَمْنَعُهَا مِنَ الِاخْتِلَاطِ،


الصفحة التالية
Icon