ماذا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيسألون عَنِ اعْتِقَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أهل السعادة وكانوا كما قال الله عَنْهُمْ، ﴿فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ فحينئذٍ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عذر يعتذرون به، كما قال الله تَعَالَى: ﴿هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فيعتذرون﴾ الآية، وهكذا قال ههنا ﴿وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ﴾ أَيْ بُهِتُوا فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا ظَلَمَةً لِأَنْفُسِهِمْ، وقد ردوا إلى علام الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ وشأنه الرفيع: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ﴾ أي في ظلام الليل لتسكن حركاتهم بسببه وَتَهْدَأُ أَنْفَاسُهُمْ، وَيَسْتَرِيحُونَ مِنْ نَصَبِ التَّعَبِ فِي نهارهم ﴿والنهار مُبْصِراً﴾ أي منيراً مشرقاً، فسبب ذَلِكَ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْمَعَايِشِ وَالْمَكَاسِبِ وَالْأَسْفَارِ وَالتِّجَارَاتِ، وغير ذلك من شؤونهم الَّتِي يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.
- ٨٧ - وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ
- ٨٨ - وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ
- ٨٩ - مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ
- ٩٠ - وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هول يوم نفخة الفزع في الصور، وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ: أَنَّ إِسْرَافِيلَ هُوَ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَنْفُخُ فِيهِ أَوَّلًا نَفْخَةَ الْفَزَعِ، وَيُطَوِّلُهَا، وَذَلِكَ فِي آخِرِ عُمْرِ الدُّنْيَا حِينَ تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى شَرَارِ الناس من الأحياء، فيفزع مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ﴿إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ﴾ وَهُمُ الشُّهَدَاءُ فَإِنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عند ربهم يرزقون، وفي حديث مسلم الطويل قَالَ: "فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ: أَلَا تَسْتَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ دارٌّ رِزْقُهُمْ حسنٌ عَيْشُهُمْ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا. قَالَ - وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ قَالَ: فَيَصْعَقُ وَيَصْعَقُ النَّاسُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ - أَوْ قَالَ يُنْزِلُ اللَّهُ - مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ - أَوْ قَالَ الظل، فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ نفخة أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤولون﴾ ثُمَّ يُقَالُ: أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ. فَيُقَالُ: مِنْ كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وتسعون قَالَ: فَذَلِكَ يَوْمٌ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً وَذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن ساق" (أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو بطوله، وهذا جزء من الحديث الصحيح). وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا. اللِّيتُ هُوَ صَفْحَةُ الْعُنُقِ أَيْ أَمَالَ عُنُقَهُ لِيَسْتَمِعَهُ مِنَ السَّمَاءِ جَيِّدًا، فَهَذِهِ (نَفْخَةُ الْفَزَعِ) ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ (نَفْخَةُ الصَّعْقِ) وَهُوَ الْمَوْتُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ (نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وَهُوَ النُّشُورُ مِنَ الْقُبُورِ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ أَيْ صَاغِرِينَ مُطِيعِينَ لَا يَتَخَلَّفُ أَحَدٌ عَنْ أَمْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بحمده﴾.