قَرَأَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعِي آنِفًا؟» قَالَ رَجُلٌ: نعم يا رسول الله، قال: «إني ما أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ»، قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما جهر بالقراءة من الصلاة حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رواه أحمد وأهل السنن). وقال عبد الله بن المبارك: لَا يَقْرَأُ مِنْ وَرَاءِ الْإِمَامِ فِيمَا يَجْهَرُ بِهِ الْإِمَامُ، تَكْفِيهِمْ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يسمعهم صوته، ولكنهم يقرأون فِيمَا لَا يُجْهَرُ بِهِ سِرًّا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَصْلُحُ لِأَحَدٍ خَلْفَهُ أَنْ يَقْرَأَ مَعَهُ فِيمَا يَجْهَرُ بِهِ سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾. وهذا مذهب طائفة من العلماء وهو أحد قولي الشافعية، لما ذكرناه من الأدلة المتقدمة، وقال الشافعي فِي الْجَدِيدِ: يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ فَقَطْ فِي سَكَتَاتِ الْإِمَامِ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ قِرَاءَةٌ أَصْلًا في السرية ولا الجهرية بما وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فقراءته قراءة له» (هذا الحديث رواه أحمد عن جابر مرفوعاً وهو في الموطأ عن جابر موقوفاً قال ابن كثير: وهذا أصح) وهذا أصح، وقد أفرد لها الإمام الْبُخَارِيُّ مُصَنَّفًا عَلَى حِدَةٍ، وَاخْتَارَ وُجُوبَ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي السَّرِيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس في الآية، يعني في الصلاة المفروضة، وعن مُجَاهِدٍ قَالَ: لَا بَأْسَ إِذَا قَرَأَ الرَّجُلُ في غير الصلاة أن يتكلم. وقال ابن المبارك عن ثابت بن عجلان قال: سمعت ابن جُبَيْرٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُواْ﴾ قَالَ: الْإِنْصَاتُ يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَفِيمَا يَجْهَرُ بِهِ الْإِمَامُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ: أن المراد من ذلك الإنصات في الصلاة وفي الخطبة، كما جاء في الأحاديث بالإنصات خلف الإمام وحال الخطبة، وقال الْحَسَنِ: إِذَا جَلَسْتَ إِلَى الْقُرْآنِ فَأَنْصِتْ لَهُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ قال: «مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ مُضَاعَفَةٌ، وَمَنْ تَلَاهَا كَانَتْ لَهُ نوراً يوم القيامة» (رواه الإمام أحمد في المسند).
- ٢٠٥ - وَاذْكُرْ رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ
- ٢٠٦ - إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ
يَأْمُرُ تعالى بذكره أول النهار وآخره كثيراً كَمَا أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ فِي هَذَيْنَ الْوَقْتَيْنِ فِي قوله: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾، وَقَدْ كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَهَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، وَقَالَ ههنا بالغدو وهو أول النهار، والآصال جمع أصيل،
وأما قوله: ﴿تَضَرُّعاً وَخِيفَةً﴾ أي اذكر بك في نفسك رغبة ورهبة وَبِالْقَوْلِ لَا جَهْرًا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ﴾، وَهَكَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ خفياً لا يكون نداء وجهراً بَلِيغًا، وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ أم بعيد فنناديه؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دعان﴾،
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: رَفَعَ النَّاسُ أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى