فَصْلٌ: وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْمَأْمُورَ بِهِ إِذَا عُمِلَ بِهِ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ النَّسْخَ يَقَعُ صَحِيحًا جَائِزًا. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ قَبْلَ الْعَمَلِ بِهِ فَظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ: جَوَازُ ذَلِكَ وَهُوَ اخْتِيَارُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ١ يَقُولُ: لا يَجُوزُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ ٢.
وَاحْتَجَّ الأَوَّلُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْفِدَاءِ قَبْلَ فِعْلِهِ٣ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُرِضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ خَمْسُونَ صَلاةً ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ٤ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى: فَإِنَّ الأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَقَعُ فِيهِ تَكْلِيفُ الْإِيمَانِ [بِهِ] وَالِاعْتِقَادِ لَهُ، ثُمَّ تَكْلِيفُ الْعَزْمِ على

١وهو: أبو الحسن محمد بن جعفر بن محمد بن هرون التميمي الكوفي النحوي المعروف بابن النجار، علم مؤلف مشهور، ولد بالكوفة سنة ٣٠٣هـ وتوفي فيها ٤٠٢هـ. انظر: شذرات الذهب ٢/ ١٦٤؛ والمنتظم ٦/ ١٢؛ والأعلام ٦/ ٢٩٨ - ٢٩٩.
٢ يذكر الأصوليون في كتبهم الاختلاف بين العلماء في جواز نَسْخُ الْحُكْمِ قَبْلَ الْعَمَلِ بِهِ فقالوا: ذهب الأشاعرة وأكثر أصحاب الشافعي وأكثر الفقهاء إلى جوازه وخالفهم المعتزلة ومعظم الحنفية... وأبو بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي، وبعض أصحاب أحمد. انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ٣/ ١٢٦؛ والتقرير والتحبير شرح التحرير٣/ ٤٩ - ٥٣؛ وكتاب المعتمد ١/ ٤٠٦ - ٤١٣.
٣ كما جاء ذلك في سورةالصافات الآيات ١٠٠ - ١٠٨، يقول المؤلّف في كتابه فنون الأفنان في عجائب القرآن، المخطوط -وهو يثبت جواز نسخ الحكم قبل العمل به-: "إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أوفى درك الوحي. انظر: البرهان للزركثي٢/ ٣٧.
٤ رواه الشيخان وأصحاب السنن. انظر: صحيح البخاري مع الفتح في باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء٢/ ٤ - ٩؛ وصحيح مسلم بشرح النووي٢/ ٢٠٩ - ٢١٦؛ في باب الإسراء برسول الله ﷺ وفرض الصلاة، كلاهما من حديث أنس.


الصفحة التالية
Icon