فمنذ خمسة عشر عاماً لم يكن محمد - ﷺ - سوى حنيفي بسيط يقسم وقته حسب كلامه هو، بين عبادة الله والتأمل في جميل صنعه.
إن السماء العميقة التي تغطي بقبتها الزرقاء المنظر الملتهب لجبل النور ما تزال تجتذب مقلته، كما كانت تجتذب مقلة الطفل أمام فسطاط مرضعته. ولكن محمداً - ﷺ - ليس عقلاً منهجياً يبحث عن نظرية في الكون واتساقه، ولا هو فكر مضطرب يبحث عن طمائينته، فإن طمائينته متوافرة لديه دائماً، وخاصة منذ اعتزاله، فهو يؤمن بإله واحد هو رب إبراهيم.
فمن الخطأ فيما يبدو لنا أن يرى النقد الحديث- ولا سيما الأستاذ (درمنجهام) - في هذا العصر مرحلة من البحث والقلق، أي نوعاً من إرادة التكيف وتخلّق الفكرة عند النبي، بل على العكس تماماً تبرهن وثائق العمر على أن المشكلة الغيبية لم تساور ضميره فقد كان عنده حلها، وجزء من هذا الحل إلهامي وشخصي. وجزء آخر موروث لأن إيمانه بإله واحد إنما يأتيه من الجد البعيد (إسماعيل).
هذه الملاحظة أساسية لدراسة الظاهرة القرآنية بالنسبة للذات المحمدية كما تصورها لنا في الواقع تفاصيل التاريخ.
ويحسن أن نبين خاصة أن أي اهتمام شخصي لا يتدخل عند هذا المتأمل المعتزل الذي لا تعنيه المشكلة الدينية، إنه بحث عن مجرد سلوك أخلاقي، على طريقة نساك الهند، أو متصوفة الإسلام، أكثر من أن يبحث عن دعوة؛ فبين ذاته والواقع الغيبي الذي يتأمله لا يمكن أن نقرر- فيما يخص هذا العصر على الأقل- رباط فكرة مقصودة، وليس هذا مجرد تقرير، بل هو بيان لحالة هذه الذات المتجاوبة مع سائر الظروف النفسية الأخرى، كما تتراءى في سيرة النبي وفي شهادة القرآن على ماضيه.


الصفحة التالية
Icon