فيها بليلة، وفي جنوب قسنطينة نوع من الحيوانات القارضة يبرح أرضه في مسارب الأودية قبيل الكوارث الطبيعية.
فهل كان عند النبي ما يشبه هذا الإلهام، أي التنبؤ بالظاهرة القرآنية التي ستلهبه وتغمر وجوده كله؟
فلو قلنا إن ذلك من عمل اللاشعور، فيجب أن نطبق هذه القاعدة على تفسير مادة القرآن كلها وتفسير فكرته المتصلة، كما نفسر بها أيضاً أعراض الظاهرة وطوارئها عند النبي، ولكن هذا- كما سنشير إليه فيما بعد- ليس أبداً ممكناً.
ومع ذلك فإن النبي سيكاشف زوجه الحانية بهمومه، ويشكو لها بمرارة، إذ يظن بنفسه الجنون والمس، ويرى أن سحراً مشؤوماً قد أضرَّ به. ولكن خديجة الفاضلة تواسيه وتهدئ روعه قائلة: ((والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)).
وفي هذه العبارات التاريخية تظهر لنا بطريقة لا تحتمل الجدل فكرة "الإله الواحد" تشيع في الوسط العائلي لمحمد - ﷺ - حتى قبيل دعوته.
وهذه الملاحظة تتيح لنا أن نستنبط من مراجعنا اقتناع محمد - ﷺ - الشخصي في هذه النقطة خلال اعتزاله، وهي تضيف تفصيلاً أساسياً للصورة النفسية التي نرسمها له.
وعلى كل حال فإننا نجد النبي بعد هذه التهدئة يستأنف طريقه إلى عزلته. ويهاجمه الشك من جديد، ويسيطر عليه الاضطراب الشديد، الذي يطبع أحواله النفسية في ذلك العهد، وهو يحتاجه الآن أكثر من ذي قبل، لأنه يشعر (بحضور) أشبه بظل يطوف حوله.


الصفحة التالية
Icon